في رحلة مليئة بالتحديات والتفاني، استطاع الشاب وليد أحمد (18 عامًا) من قطاع غزة اجتياز امتحان الثانوية العامة، بمعدل دراسي 85% من الفرع العلمي؛ ما يعكس إصراره وتفوقه حتى نال ما تمنى، وبدأ يتحضر للتسجيل الجامعي؛ لكن ظروف أسرته المادية وقفت حائلًا أمام حلمه.
يقول وليد: "كنت أطمح بالالتحاق بتخصص الشريعة والقانون في الجامعة؛ لكنني بمجرد انتهائي من الثانوية العامة بمعدل جيد جدًا مرتفع منعتني أوضاع أهلي المادية من ذلك".
لكن وليد لم يقف مكتوف اليدين أمام هذا التحدي، وبدلاً من التراجع أمام الصعوبات، اتخذ قرارًا جريئًا وهو تأجيل الانضمام للدراسة الجامعية مدة عام، والعمل في مجال الكهرباء بجانب أحد إخوانه؛ وذلك لكسب المال وادّخاره لشق الطريق نحو الدراسة الجامعية.
ويرى وليد أن هذه الخطوة ستمكنه من تحقيق استقلالية مالية وتوفير الفرصة لتحقيق حلمه فيما بعد، يوضح: "أعلم أن هذه القرارات غير تقليدية، ولكنني أؤمن أن التفاني في العمل وبناء خبراتي سيكون له تأثير إيجابي في المستقبل وأن تأتي متأخراً خيراً من ألا تأتي".
أمام هذا الواقع يتساءل الكثير من الأهالي عن مسؤولية الحكومة في توفير فرص تعليم ملائمة لخريجي الثانوية العامة، وذلك تماشيًا مع النصّ القانوني لقانون التعليم العالي في المادة رقم (2) التي تشير إلى أنّ التعليم العالي حق لكل مواطن تتوفر فيه الشروط العلمية والموضوعية المحددة في هذا القانون والأنظمة الصادرة بمقتضاه.
ووفقاً للدليل الإحصائي السنوي لمؤسسات التعليم العالي، يوجد في قطاع غزة 17 مؤسسة تعليم عالٍ معترف بها، وهي موزعة على النحو التالي: (6 جامعات تقليدية- 5 كليات جامعية- 6 كليات مجتمع متوسطة)، بينما هناك 11 مؤسسة أُخرى غير معترَف بها بسبب الانقسام السياسي، غير أنّ جميع هذه المؤسسات التعليمية غير مجانية وتتفاوت تكاليفها من الباهظة إلى المتوسط بحسب الجامعة والتخصص.
ونزولًا عند تأثيرات هذا الواقع الذي يعكس حجم التضخم في أعداد الخريجين، اختارت أسماء محمد (18 عامًا) والتي حصلت على معدل 94% من الفرع العلمي بالثانوية العامة، دخول قسم العلوم بعدما بقيت طوال عمرها تحلم بدراسة الطب. تقول: "الطب هو الأعلى سعرًا من بين التخصصات الجامعية الأخرى وبالطبع لا تستطيع أسرتي تأمين تكاليف دراسته، وقد كنت أعوّل على منحة دراسية لكن لم تأتي".
تردف بإصرار: "سأعاود المحاولة لدخول تخصص الطب، ولكن سأتابع في دراسة العلوم؛ لعلّي أجد منحة تساعدني لتحقيق حلمي، فأنا مصممة عليه وسأبذل قصارى جهدي لتحقيق حلمي والوصول إلى الهدف الذي أسعى إليه."
ويطمح الكثير من الطلبة بمجرد انتهاء مرحلة الثانوية العامة الالتحاق بالجامعة وشق الطريق نحو المستقبل؛ لكن الأوضاع الاقتصادية في قطاع غزة ساهمت في تفشي الفقر، وقد قدرت منظمات دولية بأن 80% من سكان القطاع يعتمدون على المساعدات، وهو أمر يحول بين الشباب وأمنياتهم في الحصول على شهادة جامعية.
هذا الواقع يلقي بظلال سلبية على نفوس الطلبة، ذلك ما قالته المختصة النفسية ختام الزريعي، والتي أشارت إلى أن الطلبة في قطاع غزة يتكّبدون عناء جملة من الظروف أهمها تبعات الحصار الإسرائيلي على القطاع، وانقطاع التيار الكهربائي، وقلّة ذات اليد لأولياء أمورهم، وهو أمر يحرمهم في كثير من الأحيان من مواصلة دراستهم.
وقالت الزريعي: "إذا استطاع طالب الثانوية العامة تجاوز الجزء الأكبر من هذه التحديات خلال مشواره الدراسي، تقف أمامه العقبة الأكبر وهي عدم قدرة عائلته إلحاقه بالتخصص الدراسي الجامعي الذي يرغب لسوء وضعها المادي".
وأوضحت أن الطلبة يعانون نتيجة هذه الظروف، من عدّة مشكلات نفسية منها الشعور بالإحباط واليأس والميل للانطوائية واضطرارهم اللجوء للعمل بمبالغ زهيدة؛ الأمر الذي يُضاعف مشكلاتهم الاجتماعية والأسرية.
إلى جانب ذلك، تقول الزريعي تظهر على الطلبة الذين لا يتمكنون من الالتحاق بالجامعة نتيجة الوضع المادي الصعب، أعراض نفسية كالشعور بالضغط النفسي والاكتئاب وعدم تقبل الواقع خاصّة إذا حصل على معدل مرتفع، وقد يتفاقم الأمر لدى بعض الحالات فتزداد مشكلاته النفسية تعقيدًا ويصعب حلها.
بدوره، قال المختص الاقتصادي أحمد أبو قمر، إنَّ الأوضاع الاقتصادية للغزيين تؤثر على كل مناحي الحياة بطريقة مباشرة وغير مباشرة، لا سيما التعليم وفرص الشباب التي تتضرر تلقائيًا، فيضطر الطلبة إلى دخول تخصصات لا يرغبوا بها أو تأجيل الدراسة فيحصل الطالب/ ـة فيهم على البكالوريوس بعد سنوات من الكدّ والسعي ما بين التأجيل ومتابعة الدراسة.
في المقابل، يشير أبو قمر إلى عدم وجود خطوات عملية على أرض الواقع تضمن تلقي الجميع تعليمهم الجامعي، مثل توفر قروض للطلبة بناءً ع وضعهم الاقتصادي والمادي في الأسرة، كما في كبرى اقتصاديات العالم.
وأضاف أنَّه تتعد الجامعات في قطاع غزة وجميعها خاصّة ما عدا جامعة حكومية وحيدة، لكن رسومها الدراسية لا تعتبر منخفضة ولا تتناسب مع أوضاع الطلبة الاقتصادية، فيضطر كذلك الكثير منهم للالتحاق بتخصصات التدريب المهني؛ لأنها تعتبر أقل تكلفة ويتوقع البعض أنها أسرع في إيجاد العمل.
وقد لوحظ أن هناك العديد من طلبة الثانوية العامة الذين حصلوا على معدّلات دراسية عالية جدًا يناشدون عبر منصات التواصل الاجتماعي بطلب المساعدة؛ ليتمكنوا من الالتحاق بالجامعات. وهو وفقًا لأبو قمر، دليل على ما يمر به قطاع غزة من تدهور اقتصادي.
وفسّر أبو قمر ما يحدث على الواقع بضعف القدرة الشرائية للمواطن، وقال: "المشكلة ليست بارتفاع الرسوم الدراسية فقط؛ بل بقدرة المواطن الشرائية فمن الطبيعي أن يجد كل شيء مرتفع الثمن حتى الدراسة في ظلّ انعدام فرص العمل وارتفاع عدد العاطلين عن العمل بشكل كبير".
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ ظروف سكان غزة الاقتصادية متشابكة، في الأسر المستفيدة من مخصصات وزارة التنمية الاجتماعية تعاني تقطع في صرف الدفعات، والموظفين جزء منهم يعانون من تقطع رواتبهم من حينٍ إلى آخر، وجزء آخر تحدث خصومات على أجورهم، إلى جانب تدني فرص العمل عامة؛ ما يشير إلى تردي الظروف الاقتصادية على معظم السكان.
ويقول أبو قمر في حديثه لـ "آخر قصّة"، "إن المشكلة تتفاقم لدى معظم الأسر عند بدء الفصل الدراسي، فيجدون أنفسهم أمام جملة من المصاريف تتضمن التكاليف الدراسية والمواصلات وتوفير الحاجيات والمستلزمات وغيرها؛ مما يرهق كاهل الأسر ويزيد من صعوبة وضعها الاقتصادي".
ودعا المختص الاقتصادي الجامعات الفلسطينية في قطاع غزة إلى تخفيض الرسوم الدراسية، بما يتلاءم مع قدرة المواطنين المحدودة خاصّة الأسر ذات الدخل المحدود، مطالبًا إياهم بوضع خطة واضحة للتعامل مع الطلبة محدودي الدخل، وتأسيس صندوق خاص في الطلبة، إضافة إلى ضرورة توجيههم إلى التخصصات التي توفر لهم فرص عمل بشكلٍ أسرع في سوق العمل.
الدراسة الجامعية