يضطر عمال قطاع غزة العاملين داخل الخط الأخضر إلى خوضِ سلسلة مُنهكة من التعقيدات؛ للحصول على فرصة عمل مؤقتة، تحت شروط كثيرة، في انتهاكٍ صارخ لحقوقهم في عملٍ لائق وظروف عمل كريمة.
تتعدد الانتهاكات التي تُواجه حقوقهم العمالية وقد تصل إلى حدّ الموت، ومن أهمها ما اصطلح عليه حقوقيون بـ "سياسة التمييز العنصري" في الأجور والمعاملة ومنها تعرضهم للاستغلال والاضطهاد والطرد من العمل، إلى جانب غياب معايير السلامة المهنية في مواقع عملهم.
ويعكس الواقع المعيشي والاقتصادي المزري لسكان قطاع غزة، رغبتهم الجامحة في الحصول على أيّة فرصة عمل تقيهم الفقر وتكفيهم العوز. وهو ما ظهر بوضوح عندما أعلنت وزارة العمل عن فتح باب التسجيل للراغبين من القطاع بالعمل داخل دولة الاحتلال، فسجل نحو 150 ألف شخص من نوفمبر 2021 حتى يوليو 2022.
بطبيعة الحال، فإنَّ الحصار الإسرائيلي والقيود التي فرضها على حرية حركة الأفراد وتنقلهم وإغلاق معبر الأفراد بيت حانون "إيرز" لفترات طويلة، يقف وراء وصول قطاع غزة إلى ذلك الحال، إذ عمل على تشويه سوق العمل الفلسطيني وتقليص فرص العمل وتراجع النمو الاقتصادي بحدّة وضعف قدرته على مواكبة الزيادة الديموغرافية؛ ما تسبب في تفشي البطالة.
وقد أظهرت بيانات وزارة العمل ارتفاع أعداد العاطلين العمل ممن هم فوق سنّ 15 سنة في عام 2022 إلى 239 ألف عاطل، فيما تبين ازدياد أعداد الباحثين عن عمل خلال الربع الأول من عام 2023، لتصل إلى نحو (250,558) باحثا.
بالإضافة إلى الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، فإنّ تعرض القطاع للعدوانات المتتالية أنهك الاقتصاد المحلي ووقف حائلاً أمام قدرته على النهوض، إذ دمرت قوات الاحتلال أراضي زراعية ومنشآت صناعية وتجارية. وأشارت جهات حقوقية إلى تعمّد الاحتلال حرمان العمال الفلسطينيين من الوصول لفرص عمل من خلال فرض قيوده على الحركة.
كل ذلك يأتي في إطار العقاب الجماعي الذي فرضه الاحتلال على سكان القطاع عامّة، وهو ما يُمثل انتهاك صريح للمادة (33) من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين في وقت الحرب، التي نصّت على أنّه "لا يجوز معاقبة أي شخص محمي عن مخالفة لم يقترفها هو شخصيًّا. تحظر العقوبات الجماعية وبالمثل تدابير التهديد أو الإرهاب".
لكنَّ الاحتلال لم يأبه إلى ما تنصّ عليه هذه الاتفاقيات، وشرَع في انتهاك حقوق المدنيين على مرّ سنوات، وظهرت سياسته العنصرية في كافة إجراءاته وعلى كل المستويات، فتجلّت بوضوح في معاملته مع عمال قطاع غزة داخل "إسرائيل"، وحرمانهم جملة من الحقوق التي يتمتع بها أقرانهم في سوق العمل الإسرائيلي.
تبدأ تلك الانتهاكات منذ تسجيل الأشخاص للحصول على تصاريح العمل، إذ يدخل الشخص في توليفة لا نهاية لها ويضطر للانتظار لشهور طويلة حتى يحصل على نتيجة قبول أو رفض استلام تصريح، وإذا ما سمح له بالعمل داخل "إسرائيل" فيكون عملاً مؤقتًا. ومنه ما حدث مع خالد إبراهيم (51 عامًا) وهو متزوج ويُعيل أسرة مكونة من 4 أفراد. ويعمل في مجال الدهان وتركيب الجبس.
يقول الرجل إنه كان يعمل داخل الخط الأخضر قبل عام 2000. وعندما أوقف الاحتلال عمل الغزيين هناك بدأ يعمل في عدّة مجالات نتيجة عدم استقرار الوضع الاقتصادي، ولكن هذه الأعمال بالكادّ كانت تكفي لتأمين قوته يومه وعائلته.
عام 2021 سعى إبراهيم جاهدًا للحصول على تصريح للعمل بعدما فتح باب التسجيل للعمل في "إسرائيل"، ولكن الأمر تطلب إنشاء سجل تجاري للحصول على تصريح تاجر والعمل به، وكانت تكاليف إعداد السجل التجاري عالية جدًا بحدود (4 آلاف شيكل).
ونظرًا لسوء وضع الرجل المادي لم يتمكن من تأمين المبلغ، يقول: "توجهت إلى أحد الأشخاص الذين يملكون سجلاً تجاريًا، وطلبت منه إضافتي على نفس السجل مقابل دفع مبلغ ألفي شيكل، وبعد شهرين من انتظاره تبين أنّ سجله غير فعال في وزارة الاقتصاد؛ فطالبته بالمبلغ ولم يستطع توفيره ولم أسترده حتى يومنا هذا".
بعد عدّة أشهر سمحت وزارة الاقتصاد الوطني بإنشاء سجلات تجارية فردية بتكلفة ألف شيكل تقريبًا، فقام إبراهيم باستدانة المبلغ والبدء بإجراءات لإنشاء السجل الفردي؛ للحصول على تصريح تاجر. وفي سبتمبر من عام 2021، تمكّن من الحصول على تصريح ولكن تحت بند احتياجات اقتصادية للعمل بالداخل، وانتهى نهاية فبراير من عام 2022".
ويتضمن التصريح الذي حصل عليه إبراهيم من فئة "احتياجات اقتصادية" مجموعة من التعليمات، منها التصريح شخصي وغير قابل للتحويل، ويسمح لحامل التصريح الدخول إلى إسرائيل وإلى المكان المعين والغرض المعين، ويتوجب على حامله إرفاق بطاية الهوية، ولا يُسمح بقيادة السيارة سوى في حال ينص على خلاف ذلك.
وإبراهيم واحد مما يزيد عن 17 ألف شخص حصلوا على تصاريح تحت بند "احتياجات اقتصادية" وفقًا لآخر تحديث صادر عن بيانات الهيئة العامة للشؤون المدنية، فيما حصل أكثر من 1800 آخرين على تصريح مشغل. كما بلغ عدد تصاريح التجار (2.301) تصريح، أما عدد تصاريح (BMC) الممنوحة لكبار التجار فجاء عددها (585) تصريحًا فقط.
غير أنّ، حاملي التصاريح تحت بند "احتياجات اقتصادية" هم الذين يقيدون بتلك التعليمات فقط، ونتيجةً لذلك؛ يُشير تقرير صادر عن مركز الميزان لحقوق الإنسان إلى أنّ إنكار صفة العامل في تصاريح عمال قطاع غزة؛ يحرمهم من حقوقهم التي كفلها القانون الدولي لحقوق الإنسان، ويؤكد "الميزان" على أن التذرع بنوعية التصريح لا يعفي سلطات الاحتلال من الوفاء بالتزاماتها التعاقدية كدولة طرف في العهد الدولي الخاصّ بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ولا تتوقف التضييقات التي يُعانيها عمال قطاع غزة داخل الخط الأخضر إلى هنا، بل إنّ رحلتهم للوصول إلى أماكن العمل تتبع إجراءات مُشددة، إذ يضطرون للخروج من منازلهم في ساعات مبكرة للوصول إلى حاجز بيت حانون "إيرز"، وتستغرق فترة اجتيازهم نقاط التفتيش الأمنية وقتًا طويلاً يُقدّر بنحو 12-16 ساعة أو يزيد؛ وذلك بحسب "مركز الميزان"، نتيجة عدم اتخاذ سلطات الاحتلال تدابير للتعامل مع آلاف الأشخاص؛ مما يؤدي إلى ازدحامات شديدة.
أما عندما يصل العمال إلى الأراضي المحتلة للعمل، فإنهم يتعرضون للتمييز من قبل المُشغلين الإسرائيليين سواء في حقهم بالضمان الاجتماعي أو حقهم في تأمين صحي، أو في قيمة الأجر التي يتقاضاها العامل أسوةً بأقرانه. ويواجهون ظروف عمل سيئة تتكرر فيها الحوادث المهنية في بيئة العمل ومحيطها، وتتسبب في وقوع إصابات خطيرة ووفيات كذلك، بينما لا يحصل المصاب أو ذوي المتوفى على حقوقهم.
وهو تمامًا ما حدث مع عائلة العامل عبد العزيز عبد اللطيف الدغمة (43 عامًا)، إذ أفاد شقيقه أيمن أن العائلة تلقت خبر وفاة عبد العزيز عند الساعة 11:30 صباح الإثنين 29/8/2022. وكان الرجل يعمل في إحدى مكبات النفايات في منطقة (تل أبيب) في (إسرائيل)، وتوفي نتيجة دهسه بجرافة خلال عمله في إحدى شركات النظافة داخل المكب. فيما لم تتلقَ أسرته المكونة من 5 أبناء وزوجة أي مساعدة أو تعويض عن الحادث.
الدغمة ليس الحالة الوحيدة الذي توفي أثناء عمله في "إسرائيل"، فقد أظهر تقرير صادر عن مركز الميزان لحقوق الإنسان أن أعداد وفيات العمال في الداخل المحتل من قطاع غزة، بلغت (14) وفاة منذ مطلع عام 2022.
ربما تكون الوفاة أشدّ مصيرًا قد يواجه العامل أو أسرته من بعده، لكن هناك انتهاكات يتعرض لها العمال الأحياء يصعب تجاهلها، منها تحلل أصحاب العمل في حالة إصابة العامل من أي التزام؛ بل يدفع إلى العودة لقطاع غزة للعلاج على نفقته الخاصة. يقول صبري فرج الذي يعمل في مجال تركيب الجبس في "إسرائيل" إنّه تعرض لإصابةٍ في ظهره وعندما طلب من صاحب الورشة علاجه رفض الأخير ذلك.
يردف الرجل: "رفض صاحب الورشة نقلي للمستشفى بسبب عدم حصولي على تأمين صحي؛ لأنني لا أحمل تصريح عامل، والتصريح الذي بحوزتي تصريح تاجر، وأعطاني صاحب العمل 300 شيكل فقط وطلب منى العودة لقطاع غزة للعلاج، وبعد تحسن وضعي الصحي عدت للعمل في الورشة نفسها، لكن صاحب الورشة رفض عودتي للعمل؛ لعدم حصولي على تصريح عامل؛ ما دفعني للبحث عن عمل في أماكن أخرى".
وأفاد عمال آخرون أنّهم لاحظوا أن الأعمال التي يعملون بها لا يعمل بها غيرهم من العمال الإسرائيليين، كما لا يوفر المشغل الإسرائيلي مأوى للعمال، فيضطرون لاستئجار غرف مشتركة بلا أثاث وذات أوضاع صحية مهينة وإيجار مرتفع. إذ يصل مصروف العامل شهريًا نحو 3 آلاف شيكل تشمل الإيجار، والمواصلات، والطعام، والخدمات بالحدّ الأدنى.
تتنوع الانتهاكات التي يواجهها العمال الغزيين خلال عملهم داخل الخط الأخضر، وتأتي على هيئة المبيت داخل أماكن لا تتوفر فيها الشروط الملائمة وبمقابل مادي كبير 100 شيكل لـ الليلة الواحدة، إلى جانب أنّ 60% من أرباب العمل لا يدفعون الأجور بشكلٍ يومي، بالإضافة إلى الابتزاز والاستغلال من سماسرة التصاريح، إذ يتسبب في خسارة سنوية للاقتصاد الفلسطيني بنحو مليار و200 ألف مليون شيكل.
في ظلّ هذا الواقع، يعاني عمال قطاع غزة من ظروف صعبة واستغلال مستمر، مما يتطلب ضرورة إجراء تحسينات على ظروفهم لتحصيل حقوقهم العمالية، وتحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية، مع ضرورة أن يتعاون المجتمع الدولي للتصدي لهذه الانتهاكات وتوفير شروط عمل لائقة بالعمال تضمن لهم العمل في ظروف كريمة.