محاذير سباحة الأمهات: شاطئ تحكمه التقاليد   

يتحولن إلى حارسات ومنقذات 

محاذير سباحة الأمهات: شاطئ تحكمه التقاليد   

تحت أشعة الشمس الساطعة على سواحل غزة، تقف مريم، سيدة في الخمسينات من عمرها، كأم حنونة وحارسة مُخلصة، مترقبة أطفالها الذين يلهون في أمواج بحر غزة. على وجهها تتبلور ابتسامةٌ واضحة وهي تشاهد سعادة أبنائها، وتلوح لهم بين الحين والآخر؛ ليسبح أحدهم بالقرب من الشاطئ ويرافق أخته الصغيرة. 

تتحول مريم إلى حارسة شخصية لأبنائها أثناء سباحتهم، تراقب تحركاتهم بعناية فائقة، وبينما يغادر الأطفال المياه أحيانًا ليرووا عطشهم ويتناولون وجبات خفيفة أعدّتها لهم مسبقًا، تكتمل رغبة مريم في السباحة، إلا أن القلق على أطفالها يمنعها من تحقيقها، إلى جانب تحد آخر يتعلق بعادات وتقاليد المجتمع الفلسطيني التي لا تتقبل فكرة مشاركة النساء السباحة نهاراً.  

تقول السيدة في حديثٍ لـ "آخر قصّة": "سعادة أولادي هي سعادتي، وقلبي يفرح عندما أرى ابتساماتهم؛ لذلك، لا يمكنني التخلي عن رعايتهم حتى لو للحظة واحدة. وعلى الرغم من رغبتي العميقة في السباحة، فإنني ملتزمة بتأمينهم وحمايتهم، كما أن المجتمع لا يعطينا الحرية الكاملة، لممارسة هذا النوع من الموهبة".  

نساء فلسطينيات من قطاع غزة يراقبن حركة المراكب على الشاطئ

تشارك سهام، التي تؤدي نفس دور مريم، قصة مماثلة، وتقول: "منذ صغرنا، كانت والدتي تجلس في نفس المكان على مقربة من الشاطئ وتراقبني. والآن أنا أعيد تلك الصورة، فعادةً ما تؤدي الأمهات في غزة نفس الدور".

تردف سهام، وهي أمّ لأربعة أطفال، أصغرهم لا يزال في حضنها ولم يتجاوز العام، "العادات والتقاليد في مجتمعنا تحرم النساء من السباحة في أي وقت وأي مكان، فمن غير المستحب أن أسبح دون رفقة رجل أو في مكان مختلط ومزدحم بالرجال".   

لذا، بعدما يسبح أطفالها ويستمتعون بوقتهم، تنتظر سهام حتى حلول الظلام (موعد عودة الزوج من العمل)؛ لتتمكن من الاستمتاع ببعض الوقت للسباحة. تضحك سهام وتضيف: "أتمنى أن أسبح في النهار، ولكنني لا أستطيع ترك أطفالي وحدهم. ولكن السباحة في الليل تعتبر ممتازة أيضًا. إن البحر جميل في جميع الأوقات."

على الرغم من أنّ البحر هو المتنفس الوحيد لسكان قطاع غزة الذين يتجاوزون مليوني نسمة للاستمتاع بوقتهم، إلا أن سباحة النساء فيه ليست ظاهرة شائعة، إذ تختار بعضهن السباحة في البحر ليلاً أو في مناطق بعيدة عن ازدحام الشواطئ التي يتوافد إليها المصطافون. 

وفي حين تميل الأسر ذوات الوضع المادي الجيد، إلى استئجار شاليهات مغلقة وخاصة تحتوي على مسابح توفر الخصوصية للنساء، تبقى العديد من الأمهات في غزة محرومات من فرصة السباحة العامة إلى حدٍ ما وتفريغ الضغوط اليومية، إلى جانب صعوبة لجوئهم للخيار الأول في ظلّ الأوضاع الاقتصادية السيئة نظرًا لتغول الفقر.

تواجه الأمهات والسيدات عمومًا في غزة، جملة من التحديّات وفقًا للتضييقات المجتمعية السائدة تبعًا للموروثات الثقافية القائمة، فتجد النساء أنفسهن مضطرات للتضحية برغبتهم الشخصية والاستمتاع بالسباحة، بسبب مسؤوليات رعاية أطفالهن والحفاظ على سلامتهم في بيئة مليئة بالتحديات والقيود الاجتماعية. 

غير أنّ، العديد من الأمهات لديهن استعداد كبير للتضحية والتفاني برغباتهن الشخصية وراحتهن النفسية، مقابل سعادة أطفالهن، فيتحولن إلى حارسات شخصيات لصغارهن أثناء سباحتهم، مع ترك الرغبات الشخصية والهوايات جانبًا لصالح رعاية وحماية أطفالهن. 

قتاة فلسطينية تجيد مهارة التجديف عبر شاطئ بحر غزة

وعلى مبدأ التشاركية الاجتماعية، تقوم شادية أحمد (29 عام) بتجربة فريدة، إذ تُحدِّد أيامًا خاصّة لممارسة السباحة في البحر مع جاراتها بشكل أسبوعي، بعيدًا عن ضجيج الحيّ وصخب الأطفال والضغوط الحياتية.

تروي شادية بابتسامة عريضة تجربتها، وتقول: ""إنها اللحظات التي أجد فيها الهدوء والاسترخاء بعيداً عن الالتزامات اليومية ومسؤوليات الأمومة، وتُشكل تلك الأوقات فرصة للتواصل مع جاراتي بشكل أعمق وتعزيز روابط الصداقة القوية بيننا، لكن ذلك لا يحصل إلا مع دخول الليل".

وبلا شك فإنّ شادية تُحب مرافقة أطفالها للبحر وقضاء أوقاتًا نوعية بصحبتهم، غير أنّها بحاجة إلى لحظات من الهدوء والراحة والجلوس على الشاطئ وتأمل البحر دون أن تكون قلقة على سلامتهم، حسب قولها.

وبفضل تفكيرها بهذه الفكرة النوعية والعادة الجميلة كما تصفها جاراتها اللواتي يشعرن بالامتنان لها، فإنهن يقضين أوقاتًا استثنائية معًا ويفرغن جزءًا كبيرًا من الطاقة السلبية الناتجة عن أعباء الحياة اليومية.

تعلّق إحدى جاراتها قائلة: "إنها لحظات نستعيد فيها طاقتنا ونجدد حيويتنا، ونستمتع في الوقت مع بعضنا بعضا دون أي ضغوط، فبعد أن حرمنا لسنوات من السباحة لأجل مراقبة أطفالنا وحراسة ممتلكاتنا، أصبحنا اليوم نقضي وقتاً خاصاً ممتعاً بالتوافق مع أزواجنا وجارات أخريات يعتنين بأطفالنا خلال ساعات خروجنا للبحر المحدودة".

ونصحت شادية وجاراتها النساء عمومًا بتقليد الفكرة والانتقال من مرحلة مراقبة الأطفال والانتظار الطويل لساعات الليل المتأخرة؛ ليقضين أوقاتًا مقتطعة للسباحة إلى محاولة تنفيذ الفكرة والاستمتاع بالبحر وأمواجه والتحرر من قيود المجتمع؛ وذلك من خلال البحث عن أماكن هادئة وغير مزدحمة، وعدم الاستسلام لانتقادات الآخرين.

وفي كلا الحالتين، تُظهِر النساء في غزة قوة وشجاعة في تجاوز الصعاب والالتزام بأدوارهن فمنهن مَن تُفضل إيثار نفسها على أطفالها باختيارها، ومنهم مَن تحاول تحقيق توازن بين الأمرين (رغباتها الشخصية، ورعاية أطفالها)، ولكنهن يظلن أمثلة قوية للتفاني والحب العميق لأطفالهن.