من خانيونس جنوبًا إلى غزة شمالاً، كان يقطع محمد عز الدين (20 عامًا) مسافة 25 كم² داخل قطاع غزة يوميًا، بصحبة والدته التي ظلّت رفيقة دربه في رحلته التعليمية من البيت إلى مركز الإرادة التخصصي لاضطرابات التوحد لسنوات حتى اجتاز أخيرًا مرحلة الثانوية العامة بنجاح.
ويعد عز الدين الحالة الأولى من نوعها المصابة باضطرابات التوحد والتي تواصل تعليمها المدرسي كاملاً، وفقًا لما أفادته وزارة التربية والتعليم العالي بغزة.
يعاني المصابون بالتوحد غالبًا من اعتلالات مصاحبة تشمل الصرع والاكتئاب والقلق ونقص الانتباه، بالإضافة إلى سلوكيات مستعصية مثل إلحاق الأذى بالنفس أو صعوبة النوم، لكن من المهم الدراية بأنّ هناك تفاوتًا كبيرًا بين المصابين يتراوح بين الاختلال الشديد والمهارات المعرفية العليا.
وطبيًا، عرّف المختص في الصحة النفسية سعيد الكحلوت، اضطراب طيف التوحد بأنه حالة مرتبطة بنمو الدماغ، تؤثر على كيفية تمييز الشخص للآخرين والتعامل معهم على المستوى الاجتماعي؛ مما يتسبب في حدوث مشكلات في التفاعل والتواصل.
بالعودة إلى رحلة "محمد"، فلم تكن رحلته الدراسية بالهينة؛ بل كانت محفوفة بالصعوبات التي أرهقت كاهل الوالدين على الدوام. يقول والده: "رحلة دراسة محمد احتاجت الكثير من الصبر والتحدي. في البداية سجلناه في مدارس الأونروا فرفضوا، ثم في مدارس الحكومة فلم يعيروه اهتمامًا وظلّت الأمور هكذا حتى وصل للصف السادس المدرسي".
وعندما لاحظت العائلة قدرات طفلها على التعلم والإنجاز غير المقرون بالاهتمام من الكادر التعليمي، بدأت رحلة البحث عن مؤسسات متخصصة لرعاية الأشخاص الذين يعانون من اضطراب طيف التوحد في قطاع غزة.
لكن الأزمة كانت تضيق على عائلة عز الدين نتيجة عدم توفر مراكز متخصصة بفئة مرضى التوحد في كافة محافظات قطاع غزة، لا سيما في محيطهم الجغرافي؛ الأمر الذي اضطرهم إلى الذهاب به يوميًا من خانيونس إلى غزة حيث مدرسة الإرادة للتوحد.
يقول أبو محمد، "التفتت مدرسة الإرادة لحال ابننا وأجروا تقييمًا لوضعه الصحي، ونتج عنه أنّه بحاجة لمعاملة خاصّة ومتابعة دراسية لديهم بعيدًا عن المدارس الحكومية، لكن الصعوبة كانت هنا في المواصلات والمسافات".
تكبدّت الأسرة مصاريفًا تفوق طاقتها، وهي واحدة من 81 ألف أسرة فقيرة تستفيد من مخصصات وزارة التنمية الاجتماعية المالية "شيك الشؤون الاجتماعية"، التي تقدمها للعائلات الأشد احتياجا على مستوى قطاع غزة.
وطالبت العائلة عدّة جهات بمساعدتها وتغطية تكاليف تلك المواصلات لكنها لم تجد صدى، فاضطرت مرغمة إلى توقيف دراسة ابنها في مدرسة الإرادة، واتجهت إلى مدرسة بسمة الخاصّة، المختصة بذوي صعوبات التعلم في خانيونس.
لكن مدرسة "بسمة" أعادت محمد من الصف السادس الابتدائي إلى الرابع، فخسر عامان دراسيان وحصد مقابلهم الكثير من التأسيس والاهتمام، من خلال تكييف المنهاج الفلسطيني بما ينسجم مع احتياجات هذه الفئة وإمكاناتهم، لتمكينهم من الاندماج في المجتمع.
عام تلو عام، بدأت تظهر علامات التميز لدى محمد، الذي أصبح يحصد المراكز الأولى في دراسته في المرحلة الإعدادية؛ الأمر الذي أهلّه إلى العودة إلى مقاعد الدراسة في المدارس الحكومية خلال عامي 2020-2021، (الثالث الإعدادي، الأول الثانوي) التي أظهر فيهم شغفه بالتعلم وسعيه للدراسة.
وخلال عامي الحادي عشر والثاني عشر، انتقل محمد للدراسة في مدرسة الإرادة للتوحد بغزة، وأبرز تحديًا كبيرًا في مواجهة ضغوطات "التوجيهي" التي ترهق كاهل جميع الطلاب لاسيما الأصحاء منهم. واستطاع بمتابعة حثيثة من المركز والعائلة بما فيها أخواته الثلاثة وهن خريجات جامعيات اهتممن برعايته وتدريسه حتى نال لقب "خريج توجيهي".
مدير مجموعة برامج الإرادة للتوحد، إسلام بركات، يقول إنّ اهتمامهم بحالة محمد استمر على مدار أعوام، من خلال التشخيص والخطط العلاجية التي تناسب قدراته العقلية والجسدية والحسّية؛ الأمر الذي ساهم في إحداث تطور في حالته أكسبه الاندماج في المدرسة ومنحه تقدمًا دراسيًا ملحوظًا.
وعن مساهمتهم في مساعدة الأطفال المصابين باضطرابات التوحد، يشير بركات إلى أنّهم لا يدخرون جهدًا في ذلك. لكن المشكلة التي تحدّ من تقديم المساعدة، بحسب قوله، تكمن في النظرة المجتمعية (كل فئات المجتمع سواء أشخاص أو مؤسسات أو حكومة) تجاه هذه الفئة. بحيث يوجد لبسًا في فهم حالتهم فهم لا يصنفون ضمن الأمراض، أو الإعاقات، وإنما اضطرابات فقط.
بناءً على ذلك، لا يوجد في فلسطين قانون ناظم لحقوق فئة الأشخاص المصابين باضطرابات التوحد، فلا يمكن أن تضمهم النصوص القانونية الخاصّة بذوي الإعاقة أو المرضى النفسيين لأنهم ليسوا كذلك؛ الأمر الذي يجعلهم يواجهون اهمالاً مجتمعيًا وحكوميًا أيضا.
وبحسب المختص النفسي سعيد الكحلوت، يؤدي الاهتمام والتشخيص المبكر للأفراد المصابين باضطرابات التوحد إلى نتائج جيدة جدًا تُحسن من مهاراتهم وسلوكهم وتطور لغتهم بشكلٍ ملحوظ.
وتكمن الصعوبة البالغة في متابعة هؤلاء الأفراد داخل قطاع غزة، وفقًا للكحلوت، في عدم وجود أطباء متخصصين في الطب النفسي للأطفال، وغياب التدريبات المتخصصة للعاملين في الصحة النفسية للتعامل مع مصابي اضطرابات التوحد، بالإضافة إلى عشوائية الخدمات المُقدَمة وعدم اعتمادها على نمط محدد وموحد.
بجانب ذلك، يفتقر قطاع غزة إلى وجود مركز حكومي مختص في رعاية الأشخاص المصابين بطيف التوحد، فيما يوجد مراكز خاصّة داخل مدينة غزة، ومؤخرًا قام مركز إرادة بإنشاء فرع له في منطقة الجنوب كمحاولة للتخفيف من معاناة الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات التوحد في تلك المنطقة.
بدورها، توجهت "آخر قصّة" إلى مدير دائرة تأهيل الأشخاص ذوي الإعاقة في وزارة التنمية الاجتماعية غسان فلفل، للوقوف على دورهم تجاه فئة الأفراد مصابي اضرابات طيف التوحد في قطاع غزة.
وقال فلفل إن التفاوت بين حدّة وخفة اضطرابات التوحد لدى الأفراد ينتج عنه اختلاف في طبيعة الخدمات المقدمة إليهم، مبينًا أن معظم الأشخاص من هذه الفئة ملتحقون بمؤسسات رعاية خاصّة، ووصفها بـ المحدودة إلى جانب أنّها تتعامل مع الأطفال من الجنسين.
أما حول تقديرهم الرسمي لنسبة أو عدد هؤلاء الأفراد داخل قطاع غزة، أوضح فلفل أنّه لا يوجد إحصاءات رسمية حول ذلك، فيما تواصلت "آخر قصة" مع الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني للتعرّف على سبب عدم وجود إحصائية متعلقة بمصابي اضطرابات التوحد لديهم.
وبعد عدّة محاولات للتواصل، أفاد المركز أنّهم لم يصنفوا الأشخاص المصابين بالتوحد في بياناتهم نتيجة صعوبة تشخيص هذه الحالات في ظلّ عدم وجود مراكز حكومية متخصصة؛ مما يُعيق حصر أعدادهم.
لكن تقديراتٍ غير رسمية رجحت أن عدد مصابي اضطرابات التوحد في قطاع غزة حتى عام 2016، يأتي ما بين 3000 إلى 5000، لكن هذا الرقم لاقى تعجب واستنكار من مدير دائرة الرعاية والتأهيل بوزارة التنمية، والذي وصفه بأنه "رقم كبير جداً"، في إشارة إلى أن الرقم يحمل شيئا من المبالغة.
وبحسب فلفل فإنَّ الحالات الملتحقة بالتعليم من الأطفال الذين يعانون اضطرابات طيف التوحد هي حالات محدودة، مشيرًا إلى أن المؤسسات الخاصة التي تُعنى بهذه الفئة تفرض رسومًا مرتفعة، ووصف بعضها بـ "الربحية" والمرخصة من وزارة الاقتصاد.
غير أنّ، هذا الأمر يفرض العديد من علامات الاستفهام والتعجب حول الدور المناط بالمؤسسة الحكومية، تجاه حماية المصابين بمرض التوحد وتوفير احتياجاتهم والتخفيف من الأعباء الملقاة على عاتق أسرهم.
توجهنا بهذا الاستفسار إلى "فلفل" الذي قال إن وزارته تعمل جاهدة للبحث عن حلول للمشكلات التي تواجه الحالات المصابة باضطرابات التوحد في قطاع غزة، مشيرًا إلى أن جهود الوزارة تتلخص حاليًا في منح التراخيص والتسهيلات للمؤسسات التي تُعنى بتحسين حياة مصابي التوحد.
وعلى الرغم من كل التحديات والعقبات في طريق حصول الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات طيف التوحد على حقوقهم في الرعاية والتعليم، إلا أنّ محمد عز الدين اجتاز الثانوية العامة بتقدير 60.7% ويسعى حاليًا للتسجيل في تخصص صيانة الإلكترونيات في ظلّ هالة من التخوفات الأسرية من رفض الجامعات استقباله.
ناهيك عن أن الجامعات الفلسطينية في قطاع غزة غير مهيئة أصلاً للتعامل مع هذه الحالات، إذ يتطلب الأمر وجود تخصصات جامعية ملائمة لهذه الفئة وتناسب قدراتهم ومهاراتهم، بالإضافة إلى ضرورة وجود كادر تعليمي متخصص في تدريسهم وإدماجهم علميًا.