عُرِفت مدينة غزة قديمًا كواحدة من أكثر مدن البحر الأبيض المتوسط جمالاً وخيرًا. ومَثَل قطاعها البحري مصدرًا رئيسيًا للاقتصاد الفلسطيني داخل قطاع غزة على مرّ سنوات. لكن بفعل انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي المستمرة، تراجعت مكانة هذا القطاع بتراجُع فرص العمل والأغذية التي يوفّرها.
وقلبَ هذا الواقع حال الكثير من الصيادين العاملين في عِرض البحر، فمنهم مَن تغير واقع معيشته من الممتاز إلى العيش على الكفاف، ومنهم مَن غيّر مهنة توارثها عن أجداده إلى أخرى طمعًا في تحسين مستوى دخل أسرته وتغير حالها للأفضل.
جبر سعيد (58 عامًا) أحد الصيادين الفلسطينيين الذين عملوا لسنوات ونالوا من خيرات بحر غزة الكثير. يقول: "كنت أملك قاربًا للصيد هو رأس مالي إذ كانت تبلغ تكلفته 85 ألف دينار أردني، وكنا نخرج يوميًا للصيد قبل شروق الشمس ولا نعود إلا بغروبها لكن اليوم كل ذلك أصبح من الماضي".
يضرب سعيد كفًا بكف وهو يروي بحسرة كيف تغير به الحال، فترك مهنته التي كان يجني منها "الذهب" بحسب تعبيره. وذلك بعدما قلّص الاحتلال مساحات الصيّد، وحاصر العاملين في عرض البحر فأصبحت مهنة الصيد "لا تُطعم الصياد خبزًا" وفقًا لسعيد.
يعكس هذا الضنك المعيشي حال الكثير من العاملين في قطاع الصيد عمومًا، إذ تبين في تقريرٍ خاصّ صادر عن مركز الميزان لحقوق الإنسان، أنّ عدد الصيادين والعاملين في الحِرف المرتبطة بالصيد لعام 2023، بقطاع غزة بلغ (5 آلاف) عاملاً تقريبًا، في حين كان الرقم عام 1997 (10 آلاف عامل) وهو ما يعني تقليصهم إلى النصف خلال 26 عامًا.
ويفسر تقليص مساحة الصيد التي يسمح للصيادين بالعمل فيها من (20 ميلاً) على امتداد شاطئ قطاع غزة الذي يبلغ نحو 40 كيلومترًا بموجب اتفاقية أوسلو الموقعة ما بين منظمة التحرير وقوات الاحتلال الإسرائيلي، إلى (12 ميلاً) فقط، ذلك الواقع المعيشي الصعب لصيادي غزة.
لكن تقلُّص أعداد العاملين في قطاع الصيد لم يأتِ نتيجة عدم وفرة البحر بما يجود به من أسماك بفعل تقليص مساحات الصيد فقط، بل جاء نتيجة جملة من ممارسات الاحتلال غير الأخلاقية والقانونية بحقّ الصيادين، وفقًا لتقارير حقوقية إذ رصد مركز الميزان الحقوقي (161 انتهاكًا) خلال النصف الأول من العام الحالي 2023 فقط.
تعددت أنماط وأشكال الانتهاكات الإسرائيلية الممارسة ضدّ العاملين في قطاع الصيد؛ مما قوّض العمل البحري عامةً، وكان أكثرها انتشارًا وتكرارًا هو حوادث إطلاق النار التي لم يَسلم منها الصيادون في كافة محافظات قطاع غزة من الشمال إلى الجنوب.
وتركزت معظم حوادث إطلاق النار خلال الشهور الست الماضية، في بحر محافظة شمال غزة بما نسبته نحو (43%) من مجمل الحوادث، إذ بلغ العدد (112 حادثًا)، أما في رفح جنوب القطاع فقد رصدت المراكز الحقوقية (22 حادثًا)، وفي خانيونس (18 حادثًا)، وفي غزة ودير البلح فجاءت الحوادث الأقل بعدد (6)، و(3) على التوالي.
ويصعب حصر الانتهاكات الإسرائيلية إزاء صيادي قطاع غزة في التعرض لعمليات إطلاق النار فقط، بل امتدت لأكثر من ذلك بمراحل، وكثير مِن أولئك الصيادين عايشوا صنوفًا من الانتهاك خلال عملهم في قطاع الصيد ببحر غزة.
من هؤلاء خالد جهاد (49 عامًا) الذي نجى على مدار 25 عامًا عمل فيها صيادًا في بحر خانيونس من عدّة محاولات اعتقال، ولم يسلم من عمليات إطلاق نار نحوه وزملائه الصيادين.
وفي كل مرة يخرج فيها الرجل بحسكته وشِباكه لم يضمن النجاة، حتى تعرض قبل بضعة شهور لإصابةٍ في الكتف على إثر محاولة اعتقال بعد محاصرة الزوارق البحرية الإسرائيلية قاربه. يقول: "أصابني الجنود عن بُعد بضعة أمتار، وبعد أن استطعنا الفرار بشقّ الأنفس أنا وأبنائي من محاولة اعتقال، كنت قد نزفت لعدّة ساعات حتى وصلنا أخيرًا لمستشفى قريب".
جهاد واحد من عشرة صيادين آخرين تعرضوا لإصاباتٍ متفرقة خلال الشهور الست الماضية من العام الحالي، وفقًا لرصد وتوثيق مراكز حقوقية محليّة. ومثلهم أيّضًا أو يزيد استهدفتهم قوات الاحتلال بالاعتقال التعسفي، من خلال إطلاق النار تجاه مراكبهم ومحاصرتها ثم اعتقالهم أثناء مزاولتهم مهنة الصيد، في انتهاكٍ صارخ لكل القوانين الدولية التي تحفظ للمدني حقه في ممارسة عمله بأمان.
علاء زكريا (37 عامًا) أحد هؤلاء الصيادين، الذي خرج مبكرًا في طلب الرزق مصطحبًا طفله ولم يمر ساعة على تجديفه في عرض البحر، حتى توجهت قوات بحرية إسرائيلية نحوه وأجبرتهم على خلع ملابسهم والسباحة في مياه البحر، ثم احتجزتهم لأكثر من 12 ساعة وأخضعتهم للتحقيق المُذل وسط إهانات مزرية امتدت إلى ضرب وتعذيب جسدي مهين.
يقول وهو يشتكي سوء حاله بعد تلك الحادثة: "كان أكثر ما روعني هو اعتقال ابني ذو العشر سنوات معي، وفصله عني وعدم إخباري عنه أيّة معلومات؛ ما زاد من سوء حالتي النفسية المُتبعة بوضع جسدي مرهق نتيجة الضرب والتعذيب".
وقدّر مركز الميزان الحقوقي تعرض صيادي غزة إلى خمس حوادث اعتقال خلال النصف الأول من هذا العام، أربعة منهم شمال قطاع غزة، وواحدٌ في رفح جنوب القطاع، فيما بلغ عدد المعتقلين في هذه الحوادث (21) معتقلًا من بينهم طفل واحد.
ولأنّ المال يعادل الروح، في ظلَّ الواقع المعيشي الصعب لشريحة صياديّ قطاع غزة، الذين يعيشون ظروفًا قاسية واستثنائية حالهم حال معظم سكان القطاع الذي يصل معدل الفقر فيه إلى نحو 81%. فإنّ هؤلاء الصيادين يخسرون مصدر رزقهم بالكامل في حال تعرض أحدهم لمصادرة مركبه الذي هو رأس ماله، وهذه واحدة من أصعب الانتهاكات التي يمارسها الاحتلال ضدّهم أيّضًا.
وهو تمامًا ما انعكس واقعًا على تسعة مراكب لصيادين يعملون في بحر غزة، ستة منهم تم الاستيلاء بالكامل عن مراكبهم، وتركهم يواجهون واقعًا مريرًا من سوء الحال وضنك المعيشة.
بينما قامت قوات الاحتلال بملاحقة أصحاب ثلاثة مراكب آخرين وعرّضت معدّاتهم وأدواتهم ومراكبهم للتخريب؛ الأمر الذي اضطر أصحابها إلى التوقف عن العمل لعدّة شهور، ومحاولة بعضهم الاستدانة وفقًا لما أفادوه في توضيح مجريات ما يعانونه يوميًا في عرض البحر.
يوميًا وفي كل صباح يتساءل صيادو بحر غزة، عن مساحة آمنة للصيد بحريّة بعيدًا عن كل أشكال الانتهاكات التي تخالف معايير المواثيق الدولية الحقوقية، وتتجاوز الأطراف السامية الموقعة على اتفاقية جنيف الرابعة للعام 1949 بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب.
لكن الإجابة على تساؤلاتهم تبدو أمرًا بعيد المنال ويبدو أنه من الصعب أن يحصلوا على حقوقهم في الكف عن التعرض لهذه الانتهاكات المستمرة، والتي شملتها المراكز الحقوقية الفلسطينية في 6 شهور سابقة من هذا العام وحده، بـ (161 حادثة إطلاق نار)، و(10 إصابات)، بالإضافة إلى (21 عملية اعتقال). وفيما يتعلق بالمعدات تعرضت (3) حالات لتخريب أدوات صيد، و(6) حالات مصادرة قوارب.
لذلك، يُصبح تحقيق آمال الصيادين في مساحة آمنة للعمل حلمًا بعيدًا، نتيجةً لما يواجهونه من انتهاكات على مرأى من العالم أجمع، ووسط صمتٍ دولي يطال خسرانهم أرواحهم وأعمالهم، إلى جانب خسارة الاقتصاد الفلسطيني قطاع الصيد كواحد من أهم مصادر تنميته وتطويره في سبيل إمكانية تقدم واقع سكان القطاع للأمام قليلًا.