يقام في قطاع غزة الذي لا تتجاوز مساحته 365 كم2 قرابة 200 محطة وقود موزعة على محافظات القطاع الخمس. وهو عدد ترى فيه جمعية أصحاب محطات الوقود أنه يشكل زيادة عن حاجة السكان الذين يزيد عددهم عن أثني مليون مواطن، ويتقاطع معها في هذا التوجه هيئات رسمية، وتؤكده دراسة محلية.
يقود البحث عن أسباب التضخم في عدد المحطات التي تبين أن أكثر من 80% منها مخالفة لشروط السلامة العامة، إلى وجود قرار رسمي صادر عن الإدارة العامة للبترول في قطاع غزة عام 2017، يوصي بوقف إصدار تراخيص لشركات البترول، غير أن هيئات محلية ذات اختصاص تجاهلت هذا القرار واستمرت في منح التراخيص.
تجاهلٌ قادنا إلى محاولة الوقوف على دواعي إغراق السوق بهذا العدد من المحطات والتي باتت تشكل خطراً على حياة السكان، لاسيما أن غالبيتها تحولت بفعل وجود المئات من المخالفات والتجاوزات القانونية، إلى قنابل صامتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة.
خلال التحقيق، اتضح وجود عدد من التدخلات الحكومية الملحوظة في هذا الملف الملغوم والمتخم بالتجاوزات، ومحاولات لتصويب واقع محطات الوقود الذي كانت بعض الهيئات المحلية سبباً في تضخم اعدادها لأسباب لم تفصح الجهات صراحة عنها.
لكن في الحقيقة فإن هذه التدخلات تسير بوتيرة بطيئة أحياناً بذريعة الواقع الاقتصادي ومدى الخسائر التي يمكن أن تلحقها معالجة المخالفات بأصحاب الشركات، دون أن تأخذ الجهات الحكومية بعين الاعتبار أن الخسائر في الأرواح التي قد تنجم عن استمرار التجاوزات الخطرة لمدى زمني أطول، ستكون أعظم كثيراً من أي خسائر أخرى.
لا تراعي التوزيع
استناداً إلى دراسة محلية صدرت في نوفمبر 2018 تحمل عنوان (إدارة المخاطر في محطات الوقود والغاز بقطاع غزة باستخدام نظم المعلومات الجغرافية)، فإن الزيادة في عدد المحطات تعتبر غير طبيعية، ولا تلائم واقع القطاع، حيث أنها لم تراعي التوزيع المكاني بما يستنزف الموارد المادية.
تؤكد الدراسة التي أعدها الباحث يحيى العطار، على أن زيادة عدد المحطات ينطوي عليه زيادة في نسبة المخاطر المحتملة، وعليه أوصت بضرورة وقف منح التراخيص.
بالتوازي، يتوافق رأي بعض الهيئات الحكومية ذات الارتباط بملف الوقود وكذلك شركات البترول، مع النتيجة التي خلصت إليها الدراسة، حيث وجدنا أن هناك شبه إجماع على أن غزة ليست في حاجة إلى المزيد من محطات الوقود.
وعلى الرغم من هذا التوافق إلا أن استمرار إقامة المحطات خلال السنوات الأربع الأخيرة، يثير الكثير من الأسئلة حول دوافع بعض الهيئات المحلية (البلديات) في منح التراخيص. رغم أن أهل مكة (أصحاب محطات الوقود) وهم أكثر الناس دراية بشعابها، يقولون إن العدد يفوق المعقول وإن الزيادة تخفض من مستوى أرباح الشركات نفسها، وفقاً لقانون العرض والطلب.
واعتبر أمين سر جمعية أصحاب محطات الوقود عائد أبو رمضان، أن هذه الزيادة ناتجة عما اسماه وجود "سياسات خاطئة" من قبل الهيئات المسؤولة، على اعتبار أن زيادة العدد يؤثر على الشركات وقدرتها على الوفاء بالتزاماتها سواء المتعلقة بدفع الضرائب، والرسوم ورواتب العمال وغير ذلك.
رداً على ذلك، أفاد مدير إدارة الأمن والسلامة بجهاز الدفاع المدني الدكتور محمد المغير، بتقديم توصية للجهات الحكومية بعدم حاجة القطاع إلى ترخيص مزيد من محطات الوقود حتى العام 2022، مرجعا فكرة انشاء المحطات خلال السنوات الماضية، إلى محاولة تعويض النقص في الوقود الناتج عن إغلاق الاحتلال للمعابر.
غير أنه عاد وقال مستدركاً: "هناك بعض التجاوزات قد تمت من قبل بعض الهيئات المحلية والتي قامت بمنح تراخيص للمواطنين دون الرجوع للجهات المختصة، ولكن بعد وقوع حادثة النصيرات أوقف هذا التجاوز بشكل كامل".
وعن سؤاله المغير: بماذا تفسر وجود تجاوز من قبل بعض الهيئات المحلية لقرار وقف الترخيص؟ قال: "اتحفظ على الإجابة لأنها ستدخلنا في قضايا ليس من الصواب الدخول إليها".
علماً أنه أصر على التأكيد على أنه جرى التوافق مع كافة الجهات المختصة، على أن تتم معالجة هذا الملف من خلال منهجية واضحة ومرتبطة بجدول زمني، حيث قاموا بتقسيم الاشتراطات وفقا لدرجة خطورتها بين عاجلة وآجلة.
ولفت مدير إدارة الأمن والسلامة بجهاز الدفاع المدني، إلى أن بعض المخالفات القانونية تستوجب معالجتها القيام بنقل المحطة بأكملها، وهو أمر ينطوي عليه تكلفة مالية عالية، واهدار أصول لا يمكن استعادتها، وبالتالي "هذا الملف من الملفات التي تخضع للتوازن بين السلامة والاقتصاد والاشتراطات الفنية، وحالة غزة معقدة فأنا لا أستطيع كسر المواطن.. الشرع حثني على الموازنة" حسبما قال.
بيد أن مدير الإدارة العامة للبترول المهندس إياد الشوربجي، أرجع الأمر إلى سبب آخر: "عدد محطات الوقود المرخصة القائمة في قطاع غزة البالغ (183) محطة هو عدد مبالغ فيه، ولكن هذا عائد إلى التغيرات الحكومية الحاصلة خلال السنوات الماضية والتي جرى فيها ترخيص الكثير من المحطات".
وأضاف الشوربجي "تم توقيف ترخيص المحطات قبل أربع سنوات من قبل ثلاث هيئات رسمية: الهيئة العامة للبترول ووزارة المالية والأمانة العامة لمجلس الوزراء، وما جرى ترخيصه بعد العام 2017 جاء بسبب تضارب القرارات الحكومية، حيث أن هناك بعض الجهات أعطت تراخيص مثل البلديات وغيرها دون علم بقرار التوقيف، لذلك لابد من التوقف عن إعطاء تراخيص جديدة لأن درجة الخطوة عالية من ناحية الأمن والسلامة وكذلك لا جدوى اقتصادية من ذلك".
وبناء على هذا العدد من المحطات المنتشرة في مختلف شوارع وأحياء القطاع، فإن الشوربجي أشار اعتماداً على إحدى الدراسات المسحية إلى أن نسبة المخاطر أصبحت تغطي أكثر من 90% من مساحة قطاع غزة بسبب هذا الانتشار.
لا لوم
ردا على ذلك قال أمين سر جمعية أصحاب محطات الوقود: "تعاقب الحكومات لا يجب أن يؤثر على سير العمل، كما لا يجب إلقاء أي لوم على الشركة، من يقوم بتنظيم المدن هي الهيئات المحلية وهي المسؤولة عن قراراتها السابقة وإذا أرادت اجراء تغيير على التنظيم، يجب أن تقوم بتعويض الشركات المتضررة".
ثم عاد أبو رمضان وشدد على ضرورة ألا تطلب الحكومة متطلبات تعجيزية من أصحاب الشركات، وأن تتعامل معهم بشكل نزيه يضمن تعزيز الشراكة بين القطاعين الخاص والعام.
وجهات نظر
تفسير ثالث لزيادة عدد المحطات، جاء على لسان رئيس اللجنة المركزية للأبنية وتنظيم المدن المهندس سعيد عمار، والذي قال: "قرار وقف اصدار رخص لمحطات جديدة صدر عن الإدارة العامة للبترول في العام 2017، وكان موضوع خلافياً بسبب اختلاف وجهات النظر، لذلك استمرت اللجنة المركزية للأبنية وتنظيم المدن بإصدار تراخيص، غير أنه جرى معالجة هذا الخلل في بداية العام 2018 وجرى التوافق على وقف اصدار تراخيص لمحطات الوقود والغاز".
تفسيرٌ قد يبدو غير منطقي، بأن تتضارب المواقف الحكومية تجاه مسألة حساسة كترخيص محطات وقود قد تكون مطابقة لمعايير دون أخرى، خصوصا معايير السلامة العامة، الأمر الذي قد يضاعف المخاطر على حياة الناس.
ثم أن عمار عاد وأكد على أنه منذ ذلك الوقت لم تصدر أي رخصة، "أما فيما يتعلق بالمحطات التي افتتحت بعد عام 2018، فهي بسبب أن أصحاب تلك المحطات قد حصلوا على تراخيص في وقت سابق لكنهم لم يقوموا بإنشاء المحطة في حينه. وبالتالي فإن كل ما تراه هي محطات حاصلة على تراخيص قديمة" على حد قوله.
وفيما يتعلق بتحديد حاجة القطاع للمحطات والجهة التي تقرر أعداد المحطات وأنواعها وتوزيعها، قال عمار، إن هذا مناط بالإدارة العامة للبترول، وبالتالي هم الأقدر على الإجابة الواضحة عن موضوع حاجة القطاع للمزيد من المحطات من عدمه، لكننا نؤكد أن تراخيص محطات الوقود والغاز توقف بعد تاريخ ابريل 2018.
ورفض رئيس اللجنة المركزية للأبنية وتنظيم المدن، توجيه أي تهم بشبهات فساد في ملف اصدار التراخيص، قائلاً "هذا كلام فيه تجني وليس هناك أحد فوق القانون، والقانون يسري على الجميع ولكن طبيعية العمل الإداري في العالم تشير إلى أن هناك أناس لها علاقات شخصية تحاول استثمارها وتوظيفها لخدمة مصالحها، ولكن موقف المسؤول دائما ينطلق من العمل وفق الأنظمة واللوائح والمصلحة العليا والتي لا تتوافق أحيانا مع المصلحة الخاصة".
وأضاف "أنا أؤكد عدم وجود أي متنفذين وأصحاب نفوذ في صنع القرار(..) القرار يتخذ للمصلحة العامة، وبما يخفف الضرر عن المصالح الخاصة، نحن نعظم المنافع ونخفض السلبيات لكن لا أحد فوق القانون".
وشدد على فكرة أن حكومته تهتم بمسألة إحداث توازن في المعالجات، "على اعتبار أن إغلاق أي محطة سيترتب عليه توقف مصدر رزق عائلات، وبالتالي تحاول الجهات المسؤولة اجراء توازنات "وهذه التوازنات تتسبب أحيانا في بطء عملية المعالجة" كما يقول.
البطء الذي يتحدث عنه المسؤول الحكومي، ليس مبرراً في ضوء وقوع حادث تدميري في الخامس من مارس عام 2020، بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة، نتيجة انفجار صهريج محروقات تابع لأحد المخابز وأسفر عن وفاة نحو (26) مواطنًا، وإصابة أكثر من خمسين مواطنًا بحروق مختلفة، إضافة إلى تضرر (30) محلًّا و(40) بسطة و(18) مركبة، وفقاً للجنة الحكومية للتحقيق في الحادث.
حادثٌ قاد إلى تشكيل لجنة حكومية في قطاع غزة تسمى "اللجنة الرئيسية للأمن والسلامة"، تضم في عضويتها كل من وزارة الحكم المحلي والإدارة العامة للبترول وجهاز الدفاع المني. ووضعت هذه اللجنة كما يقول أعضاؤها، ملف الحرف الخطرة في قطاع غزة على طاولة البحث لمعالجة الخطورة التي تشكلها نتيجة وجود مئات المخالفات والتجاوزات القانونية لمعايير السلامة العامة.
يقول المهندس سعيد عمار الذي يتبوأ أيضاً منصب نائب رئيس اللجنة الرئيسية للأمن والسلامة الحكومية: "في أعقاب حريق النصيرات، جرى تسليط الضوء على واقع محطات الوقود والغاز، وقد بدأت الحكومة بمراجعة شاملة للأنظمة واللوائح والقوانين التي تضبط عمل المنشأة والحرف الخطرة بشكل عام ومحطات الوقود بشكل خاص".
وأضاف عمار "جرى تشكيل اللجنة الرئيسية للأمن والسلامة، بعد الحادث مباشرة، وبدأت بعمل زيارات ميدانية لكافة المحطات ومراجعة أوضاعها، وتبين أنه كان هناك نوع من التراخي في تطبيق الأنظمة واللوائح والاشتراطات الخاصة بالأمن والسلامة في المحطات"، دون أن يفصح عن الجهة المتسببة بهذا التراخي.
لكنه بين في الوقت نفسه أن عمليات التصويب متباينة وفق ظروف كل محطة، بعضها يتطلب وقتا زمنيا والآخر بحاجة إلى تصويب فوري.
واعترف في الوقت نفسه بأن اجمالي عدد المحطات التي اجتازت التقييم بخلوها من المخالفات لا يتجاوز الـ20 محطة، أي بما يعادل 10% تقريبا من مجموع المحطات.
وقال: "المحطات التي لا تحتاج إلى تصويب (20 محطة) من أصل حوالي 200 محطة.. نحن نتكلم عن 90% من المحطات فيها مخالفات بسبب وجود نوع من أنواع التراخي وعدم تطبيق الأنظمة واللوائح والقوانين بشكل مهني، الكل يعرف هذا الأمر، وحادث النصيرات أفاق الجميع وأصبح كل طرف يعرف مسؤولياته".
ورغم هذا الإقرار بهذا الحجم من المخالفات، إلا أنه يتبين أن الإجراءات الحكومية بحق المخالفين لا تزال تسير بوتيرة ضعيفة، الأمر يضع الكثير من علامات الاستفهام حول مسببات هذا الضعف الذي قد يزيد من احتمالات الخطر المحدق بحياة الآلاف من المواطنين.
تشير بيانات حصلنا على نسخة منها عبر جهاز الدفاع المدني وقمنا بتحليلها، أنه خلال السنوات الثلاثة الأخيرة جرى تحرير (853 مخالفةً) بحق محطات تتجاهل اللوائح القانونية، إلى جانب تقديم (1592 إخطاراً)، فيما جرى إحالة (180 قضية) إلى النيابة العامة. وقد كانت نسبة المخالفات خلال العام الأخير 2020 هي الأعلى.
هنا كان لابد من التقدم بسؤال لجهة النيابة العامة لمعرفة ما مصير الإحالات التي قد وصلت إليها من قبل الجهات المختصة، فأفاد المستشار محمد مراد رئيس ديوان النائب العام، أنه لا يتوفر لديهم أي أرقام حول عدد القضايا التي جرى البت فيها، وكذلك المنظورة أمام المحاكم.
وقال مراد: "أي شكوى ترد إلينا من الجهات الرسمية نقوم بتحويلها للنيابات في المحافظات، والأخيرة تقوم بفتح تحقيقات جزائية فيها، ولكن عادة ما يعطى الشخص فرصة للتسوية لمدة أسبوع، وفي حال جرت التسوية يتم حفظ الملف بصلح جزائي، إما في حال كان العكس يجري إيقاف الشخص المتسبب بالمخالفة.. وهناك الكثير من القضايا المنظورة أمام المحكمة".
حياة السكان
الأرقام الآنفة كانت محفزةً وراء البحث الميداني عن طبيعة وشكل المخالفات ومدى الخطورة التي تشكلها على حياة السكان. تتبعنا خلال شهرين متتاليين، رفقة فريق مشكل من إدارتي الأمن والسلامة بجهاز الدفاعي المدني، ودائرة التنظيم بوزارة الحكم المحلي، واقع المخالفات القانونية ومستوى الخطورة الناتجة عن تجاوز معايير السلامة العامة.
خلال الزيارات الفجائية تبين أن العشرات من المحطات، تخالف نظام إنشاء محطات بيع الوقود السائل لسنة 2018 الصادر عن اللجنة المركزية للأبنة وتنظيم المدن بالمحافظات الجنوبية، والتي تشكلت بموجب نص المادة الثالثة من قانون تنظم المدن رقم 28 لسنة 1936.
تنص المادة (6) المتعلقة بالشروط التنظيمية العامة: يمنع قيام أي إنشاءات أو أنشطة فوق منطقة خزانات الوقود المدفونة. غير أن الواقع كان عكس ذلك، حيث اكتشف فريق التفتيش استخدام قطعة أرض في خلفية إحدى محطات الوقود الواقعة شمال غرب غزة ككراج لصهاريج الوقود المتنقلة، فيما أن أسفل هذه الصهاريج يوجد خزانات وقود أخرى، الأمر الذي ترى فيه الأجهزة الرسمية مخالفة قد ينتج عنها انفجارات خطرة.
عدا عن ذلك، وجدنا تجاوزات أخرى تتعلق بمجاورة محطات غاز ووقود بمسافة تصل 15 متراً، فيما أن الحد الأدنى وفقا لما نصت عليه المواد القانونية هو ألا تقل المسافة الفاصلة بين محطتي الوقود والغاز عن 100 متر.
يقول أحد أعضاء مجلس إدارة المحطتين المتجاورتين للوقود والغاز، يدعى هشام الخزندار: "نحن ملتزمون بالقرار الصادر عن الجهات الحكومية والذي منحنا مدة عام لتصويب هذا الواقع- انقضى منه 6 أشهر- لكننا نحتاج إلى بعض الوقت"، ورفض أن يضيف على هذا القول شيئاً.
بينما قدر الدكتور محمد المغير مدير إدارة الأمن والسلامة بجهاز الدفاع المدني، حجم الخطورة القائمة في هاتين المحطتين على وجه الخصوص على اعتبار أنهما الأكبر والأضخم على مستوى قطاع غزة، بالقول: "في حال نشوب حريق في هاتين المحطتين نتيجة التجاوزات القائمة فيهما وضخامة السعة التخزينية، فإن كتلة اللهب ستصل إلى أكثر من نصف كيلو متر على أقل تقدير".
تتشارك بعض محطات الوقود التي قمنا بمعاينتها من الداخل، في تجاهل إقامة أسوار حول موقع المشروع من البلوك أو الخرسانة بما لا يقل الارتفاع عن 2 متر من جهة الجار، وفقا لما نصت عليه المادة السادسة أيضا من الشروط التنظيمية العامة.
التجاوز الذي يبدو أكثر خطورةً في هذا الملف الشائك والمعقد، هو تعارض واقع العديد من المحطات مع ما نصت عليه المادة السابعة من الشروط التنظيمية، والتي تطالب بضرورة أن يكون الحد الأدنى للمسافة بين حد المشروع والمدارس والمعاهد والجامعات والكليات والمستشفيات والمراكز الصحية (50) متراً من جميع الجهات.
قياساً على هذا الشرط، وجدنا أن هناك عددًا من المحطات في مناطق متفرقة من القطاع -نتحفظ على أسماءها- تجاور صالات للأفراح ومساجد ومراكز صحية، بمسافة تقل عن ثلاثين متراً، الأمر الذي ينذر بخطورة عالية.
تثير قضية المخالفات، ردة فعل متناقضة تماماً من قبل جمعية أصحاب شركات الوقود والغاز، على ما أوردته جهات الرقابة الحكومية، إذ يقول أمين سر الجمعية المهندس عائد أبو رمضان: "جميع المحطات مطابقة لمعايير السلامة العامة وذلك بشهادة الجهات الحكومية التي قامت منذ عشرات السنين وحتى العام الماضي بمنحها التراخيص.. ليس من المعقول أن أكون في العام 2020 مطابق للشروط وفي العام 2021 أصبح مخالف".
الإشكالات نفسها التي استعرضها المسؤولون الحكوميون، قام أبو رمضان بنفي جزء كبير منها، معتبراً أن هناك مبالغة في تسجيل المخالفات بحق شركات البترول.
وقال: "نؤكد أننا مع السلامة العامة ومع تطبيق شروطها لأنها تهمنا نحن من الأصل من أجل عمالنا وجيرانا وأموالنا وأملاكنا، ولكن هناك مبالغة ونوع من الغموض، إذ لا يوجد نظام مكتوب بل يتم اصدار تعليمات شفهية".
مساحات مخالفة
وتفرق الاشتراطات التنظيمية الصادرة عن اللجنة المركزية للأبنية وتنظيم المدن، بين محطات الوقود وفقا لفئات ثلاث (أ، ب، ج)، ولكل منها مواصفات خاصة، يجب أن يضمن الترخيص تحققها على أرض الواقع.
بموازاة تلك الاشتراطات، يضع جهاز الدفاع المدني لائحة لشروط السلامة والوقاية من الحريق وسبل الحماية الواجب توفرها في المحطات، والتي كان من أبرزها ألا تقل مساحة المحطة من الفئة (ج) عن (600) متر مربع. فيما وجدنا أن حجم المساحة في عدد من المحطات لا ترتقي إلى ثلث المساحة المطلوب توفرها.
التجاوزات التي قمنا برصدها، أكدها مدير إدارة الأمن والسلامة بالدفاع المدني "المغير"، وأضاف عليها سلسلة أخرى من المخالفات، قائلاً "إن هناك مجموعة من المخالفات تتعلق بأن أغلب المحطات القائمة يشترط فيها أن تكون المسافة بين جدار غرفة الخزان المطمور وحد الجار، مترين على أقل تقدير، غير أننا نجد أن المسافة تصل أحيانا إلى 80 سم، وبالتالي لو حدث دخول كهرباء ساكنة أو وقع انفجار في جسم الصهريج فإن ذلك ستؤثر على المحطة والبيئة المحيطة فيها".
فضلاً عن ذلك، أشار المغير إلى أن هناك مشكلة أخرى متعلقة بالمضخات المستخدمة داخل المحطات، إذ يتم استخدام مضخات مخصصة للمياه بديلا عن المضخات المخصصة للوقود السائل، وذلك بسبب منع الاحتلال إدخال مضخات الوقود، "وعليه نحاول أن نعمل بيئة حاضنة لاستيعاب أي انفجار يمكن أن يحدث" كما قال.
يقر المغير وهو عضو في لجنة السلامة العامة، بوجود تغافل في عملية تطبيق بعض بنود القانون من قبل بعض أصحاب المحطات، والتي منها عمليات تخزين الوقود والغاز بكميات كبيرة بين التجمعات السكانية، وقال: "إحدى المحطات لديها صهاريج تخزين بجوار صالة أفراح بكمية تصل 2 مليون لتر، فضلا عن أنها متاخمة لمنطقة سكينة، وهذه مصيبة وجاري العمل على تصويب أوضاعها وفق ما ترتأي اللجان المختصة".
علاوةً على ذلك، أوضح مدير إدارة الأمن والسلامة بالدفاع المدني أن أغلب المحطات تهمل جهاز الإنذار الذي نصت عليه شروط الوقاية من الحريق في البند (د)، معبرًا عن استغرابه من تقديم بعض أصحاب المحطات بطلب إلى الدفاع المدني يرفضون فيه تزويد محطاتهم بجهاز انذار.
كما بين أن هناك العديد من أجهزة الإطفاء التالفة داخل المحطات، فضلا عن أن فتحات التهوية التي نصت عليها لائحة السلامة والوقاية من الحريق مقابلة لبيوت سكنية، الأمر الذي قد يكون سببا في تسرب مادة الرصاص إلى البيئة المجاورة، على حد تأكيده.
أفاد مدير إدارة الأمن والسلامة بجهاز الدفاع المدني، بإغلاق سبع محطات في محافظة رفح جنوب قطاع غزة، وذلك "بسبب وجود مخالفات لا يمكن تصويبها"، وفق قوله.
على الطرف الآخر، أكد أبو رمضان أن الجهات الرسمية منحت التراخيص بإقامة منشآت سواء للمحطات أو صالات الأفراح أو المباني، وبالتالي عليها تحمل مسؤولياتها تجاه ذلك. وقال أمين سر جمعية أصحاب محطات الوقود والغاز: "لا يجوز أن تحملني مسؤولية المخالفة وتعفي نفسك أنت (يقصد المسؤول) الذي وافقت على هذه المحطات وجعلتني استثمر فيها ثم تقول لي أنت مخالف، يجب أن يكون هناك حكمة في التعامل مع هذه الأمور وكل مشكلة ولها حل".
وأضاف "نحن نشعر بالتجني في تطبيق القانون وبصورة تعسفية.. هناك تحول من قوة القانون إلى قانون القوة".
عودًا على ذي بدء، قمنا بجولة ثانية بعد شهر كامل من الجولة الأولى برفقة مفتشين من جهاز الدفاع المدني لبعض المحطات التي منحت بعض الوقت لتصويب أوضاعها، فثبت عدم تصويب أي من المخالفات خصوصا تلك المتعلقة بضرورة فصل التمديدات الواصلة بين خزانات الوقود الخطرة.
إضافة إلى ذلك، قمنا بتوثيق مخالفات إضافية تتعلق بتلف أسطوانات الإطفاء والتي تشكل صمام أمان لخزانات الوقود. والبعض الآخر لا يوجد عليها تاريخ صلاحية، وفقاً لما نصت عليه لائحة شروط السلامة والوقاية من الحريق، في المادة (ب) بضرورة وجود معدات إطفاء يدوية، ووجوب تزويد مباني ومنشآت المحطة بطفايات الحريق اليدوية المناسبة كماً ونوعاً طبقاً لما تحدده المديرية العامة للدفاع المدني.
كبسة زر
الإدارة العامة للبترول وهي واحدة من الجهات الحكومية التي تشكل طرفاً رئيسياً في لجنة السلامة العامة، حاولت أن تمسك العصا من الوسط، إذ يقر مديرها المهندس إياد الشربجي، بوجود المخالفات والتجاوزات، لكنه في الوقت نفسه قال إن معالجتها لا يمكن أن يأتي فجأة بـ “كبسة زر" على حد وصفه.
وأضاف الشربجي: "نحن أمام تحدي كبير، ودورنا مركزي في تصويب أوضاع بعض المحطات واتخذنا العديد من الإجراءات بما فيها وقف تزويد المحطات المخالفة بالوقود بناء على إنذارات أو بلاغات وتوصيات جهات فنية مختصة".
وعبر صراحةً عن وجود صراع وتحدي كبير متعلق بممارسة من أسماهم بعض الأشخاص "غير الملتزمين" بالقانون، الذين يحاولون الضغط على الجهات الرسمية للحيلولة دون تصويب أوضاعهم بذريعة الحصار والأوضاع الإنسانية.
يحفز وصف "الأشخاص غير الملتزمين" الذي رفض الشوربجي الإفصاح عنهم، على طرح المزيد من الأسئلة المشروعة حول قدرة هؤلاء الأشخاص على إبقاء مخالفاتهم طي الأدراج في مكاتب المسؤولين الحكوميين، علماً أن عدم الاستجابة للتصويب وتجاهل تطبيق الإجراءات القانونية بحق المخالفين، يشكل خطراً بالغاً على حياة العامة.
بيد أن الشوربجي قال "الواقع يفرض نفسه، فالكثير من هذه المحطات يتجاوز عمرها الثلاثين عاماً، وفي بعض الأحيان لا يمكن فصل عملية التصويب عن هذا الواقع، خصوصا أن القطاع الخاص يعاني من إجراءات الحصار، وبالتالي لا يمكن أن نقدم على خطوات فجائية ونحن نعلم أن هذا القطاع غير قادر على تنفيذها جملة واحدة لذلك نتدرج في تنفيذها وفقاً للأولويات ودرجة الخطورة".
وتابع قوله "نحن نبدأ بتصويب الخطر الداهم والكبير، ثم الأقل خطورة، وفقا لتقدير كل محطة (..) بعض المحطات ربما تتطلب إزالة كاملة ونقلها إلى مكان أخر وهذا حصل فيه إجراءات وتم تقديم إخطارات لبعض محطات من أجل نقلها، وأخرى جرى إلزامها بضرورة تطبيق المخططات اللازمة كالأعمال الخرسانية اللازمة وفقاً لمنظومة الأمن والسلامة".
وقال مدير الإدارة العامة للبترول "في بعض الأحيان نوقف تزويد أو تقليص الوقود إلى أكثر من خمس محطات في اليوم الواحد، وفقا لتوصيات التقارير الميدانية من قبل لجان التفتيش وجهات الاختصاص لإجبارها على تصويب أوضاعها".
بينما لم يتردد أبو رمضان في القول: "بلا شك قد يكون هناك مخالفات لكنها فردية، ونحن من واجبنا القيام بالمساعدة في حلها ومعالجتها حيث أنها تهم الجميع، كما أن هناك تعاطي وتفهم من الجهات الحكومية للوضع الاقتصادي ومشاكل الشركات، لكن هذا التفهم ليس كافيا".
في الوقت نفسه رفض أبو رمضان منح الهيئات الرسمية لأصحاب المحطات مدى زمني حتى لو كان طويل نسبياً، من أجل إغلاقها، قائلاً: "السواد الأعظم من هذه المحطات يمكن معالجة اخطائها ومن غير المقبول إعطاء مهلة حتى لو كانت طويلة لإغلاقها".
وأردف بالقول: "أنت (يقصد المسؤول) منحتني الترخيص ولا تستطيع سحبه إلا إذا قمت بتعويضي، وما دون ذلك، لو منحتني مئة عام فلن أكون موافق على إزالة المحطة، لأن هذا حق يكفله القانون ولا يوجد أحد فوق القانون ولا حتى الوزارات".
في سياق آخر اعترف مدير الهيئة العامة للبترول، بوجود بعض المحطات التي لا تتوفر لديها الأوراق الكاملة للإجراءات المطلوبة لعملية الترخيص وتعمل منذ سنوات طويلة بشكل مخالف، "هذا أدخلنا في معترك وقمنا بتوقيف توريد الوقود إلى هذه المحطات، مع العلم أن العدد الأكبر منها تحصل على حصتها من الوقود بشكل غير مباشر من خلال محطات أخرى رئيسية مرخصة" كما قال.
وأضاف الشوربجي "هذا التجاوز لا يعفي الهيئة العامة للبترول من متابعة هذه المحطات التي يجب أن تخضع للقانون وتطبق عليها إجراءات الأمن والسلامة، ولكن في الحقيقة الواقع ليس بالسهل وتصويب الخلل عملية متراكمة وتحتاج إلى وقت أطول وفقاً للأولويات".
واقع متخم بالتجاوزات
يتقاطع ما قاله الشوربجي حول قيام بعض المحطات الكبرى بتزويد المحطات الأخرى غير الحاصلة على التراخيص بالوقود، مع ما قمنا بتوثيقه عبر الكاميرا خلال إحدى المعاينات، علماً أن تلك المحطات تتعامل بالطرق البدائية في عملية توصيل الوقود من الخزانات المزودة إلى صهاريج المحطات المستفيدة عبر خطوط غير آمنة، كما يقول المفتشون الحكوميون.
نعيم اللوح مدير دائرة التنظيم بوزارة الحكم المحلي قال خلال عملية توثيق ميداني للمخالفات: "هذا الواقع متخم بالمخالفات، خصوصا فيما يتعلق بمعايير السلامة الخاصة بفتحات التعبئة التي يجب أن يكون حولها حقل يمنع دخول الأفراد إلى هذه المناطق الخطرة".
وشدد اللوح على أن السعة التخزينية داخل بعض المحطات غير حاصلة على ترخيص، فضلا عن أن الخزانات يجب أن تكون داخل غرف من الخرسانة، "فيما أننا اكتشفنا وضع الخزانات بدون أي أجسام حماية" كما قال.
على ضوء ما تقدم، يوصي ائتلاف من أجل النزاهة والشفافية (أمان)، تفادياً لحصول حوادث خطرة، بضرورة بتوحيد العمل وفق اجراءات السلامة المعمول بها في الضفة الغربية، بحيث يتم اعتماد نموذج النظام المطبق فيها، ومطالبة التزام وتطبيق جميع الأطراف لها، بما فيها شركات البترول، تأكيداً على المصلحة العامة.
كما طالب (أمان) عبر تصريح نشر على موقعه الإلكتروني بتاريخ السادس عشر من مارس 2021، بتعزيز دور هيئة المواصفات والمقاييس في وزارة الاقتصاد لمتابعة خزانات وصهاريج الوقود وتوزيع الأدوار بشكل تكاملي لكل من الدفاع المدني، ووزارة المواصلات، ووزارة الحكم المحلي، وهيئة البترول، وضرورة الإفصاح عن إجراءات السلامة والأمن المطلوبة من الجهات ذات العلاقة بالاستناد إلى المواصفات القانونية، إضافة الى ضرورة المطالبة بوجود لوائح قانونية واضحة تحدد إجراءات التفتيش والضبط والتحقيق والجزاءات والمخالفات الخاصة بأعمال الدفاع المدني، والإفصاح عنها للجمهور وللجهات ذات العلاقة.