لا يمكن القول بأن النساء اللواتي تجاوزن الخمسين أو الستين عامًا في المجتمعات المحافظة لا يفضلن استماع أو غناء أغاني سيدة الغناء العربي "أم كلثوم"، يمكن أن يكون هناك اختلافات فردية بين الأشخاص فيما يتعلق بتفضيلاتهم الموسيقية بغض النظر عن العمر، لكن في الغالب لا يشاركون هذا الأمر مع أحد فالمجتمع يراقب عن كثب!.
لذلك يتأثر اختيار الأغاني والاستماع إليها بالعوامل الثقافية والاجتماعية والدينية التي تنشأ في المجتمعات المحافظة، حيث توجد بعض القيود أو القيم المتعارف عليها في هذه المجتمعات التي تؤثر على اختيار الموسيقى واستماعها ومشاركتها مع أشخاص آخرين.
السيدة محاسن، امرأة فلسطينية في الخامسة والخمسين من عمرها تعيش في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، تنتمي إلى جيل نشأ ونشط في الفترة التي اشتهرت فيها السيدة أم كلثوم بأغانيها الرائعة. منذ صغرها، كانت محاسن مولعة بالموسيقى وتجمع ألبومات السيدة أم كلثوم وتستمع إليها بشغف. كانت تستمع إلى صوتها الرائع في السر وتعيش في عالم من الأحاسيس والمشاعر العميقة التي تنبعث من أغانيها.
لكن بمرور الزمن، ومع الزواج والاندماج في مجتمع محافظ كمجتمع قطاع غزة، تغيرت حياة محاسن تدريجياً. بدأت المعايير الاجتماعية تفرض نفسها عليها وعلى النساء الأخريات في المجتمع لاسيما اللواتي أصبحن جدات، حيث بدأت تسيطر القيود الاجتماعية على شغفها بالاستماع إلى الموسيقى وبالتحديد بأغاني السيدة أم كلثوم.
رغم أن السيدة محاسن وهي أم لسبعة من الأبناء، كانت مستمرة في حبها وتقديرها لفن السيدة أم كلثوم، إلا أنها تواجه صعوبة في التعبير عن ذلك في الأماكن العامة أو حتى في منزلها، وتقول إن المجتمع المحافظ الذي تعيش فيه ينظر إلى استماع النساء للأغاني بشكل عام على أنه تصرف غير مقبول أو مخالف للقيم والتقاليد. تفتقد محاسن إلى الحرية في التعبير عن شغفها الموسيقي وتجد نفسها مقيدة بالتوجهات الاجتماعية المحددة للمرأة.
تشكل هذه الحالة تحديًا للسيدة محاسن وللكثير من النساء اللواتي يشعرن بالشباب والحماس لا يزال ينبض في قلوبهن. يجدن أنفسهن يتناقضن بين رغبتهن في التعبير عن ذاتهن وحبهن للموسيقى وبين التوقعات الاجتماعية والقيود المفروضة عليهن. قد يشعرن بالعزلة والحبس داخل جدران مجتمعهن.
تقول السيدة: "في حقيقة الأمر أجد في المناسبة الاجتماعية كالأعراس وأعياد الميلاد أو تجمعات الجارات والصديقات، فرصة للتعبير عن النفس، حيث نحاول إيجاد مساحة خاصة للتمتع بما نحب دون انتقادات".
تنصت الأرملة وداد (55 عاماً) وهي أم لخمسة أبناء يعيشون معها في مسكن واحد مقام في محافظة خانيونس جنوب قطاع غزة، إلى مقطوعة غنائية لأم كلثوم "بعد حين يبدل الحب دارا.. والعصافير تهجر الأوكار.. وديار كانت قديما ديارا.. سترانا.. سوف تلهو بنا الحياة.. سوف تلهو بنا الحياة وتسخر.. فتعالي تعالي أحبك الآن، الآن، الآن أكثر".
تقول إن هذه المقطوعة تذكرها دائماً بزوجها الذي فقدته في حادثة غرق قبل عشرين عامًا، ولم تزل تشتاق لجلساته ومسامرته، فالفقد مؤلم إلى حد كبير، ولا يمكن للإنسان دائماً أن يعبر عن مشاعره لمن حوله، لذلك فإن في أغاني أم كلثوم مساحة للتعبير عما في داخلنا".
لكن من ناحية ثانية، تقول السيدة وداد إنها تستمع إليها خلسة دون أن يكتشف ذلك أحد من أبنائها الشباب، إذ لا يفضل المجتمع المحافظ غالباً رؤية سيدة تستمع بشغف إلى الأغاني حتى القديمة منها، لأن ذلك بالنسبة لهم أمر معيب".
وتشير إلى أن استماع السيدات اللواتي تجاوزن الخمسين والستين في مجتمعنا للأغاني حتى القديمة منها كأغاني أم كلثوم والمطرب عبد الحليم وميادة الحناوي وغيرهم، يحمل الناس على الظن بأن هذه السيدة "سلوكها غير سليم".
تفسر سيدة أخرى تدعى سماهر علي (55 عاماً) عدم اهتمامها بالاستماع إلى أغاني أم كلثوم رغم أنها كانت ترافقها طيلة سنوات شبابها، بأن الأمر مرتبط بالثقافة المجتمعية التي ترى في استماع النساء كبيرات السن إلى الأغاني بأنه أمر لا ينسجم مع أعمارهن.
توضح سماهر أن زوجها قد ينتقد هذا الأمر، في حين يسمح لنفسه بالاستمتاع بها، قائلة: "بينما أقلب هاتفي في مواقع التواصل الاجتماعي تظهر أغنية هنا وكوبليه هناك فأنصت لها قليلاً ورغم أنه قد يكون استماعًا عابرًا وبدون تركيز، إلا أن زوجي وبشكل تلقائي يزم شفتيه ويعقد حاجبيه رفضًا للأمر، وفي بعض الأحيان يقول النساء في عمرك يقضين أوقاتهن في الصلاة والعبادة".
قد يكون العمر له دور في قضية الاستماع إلى الموسيقى خصوصا في مجتمع إسلامي، حيث تتراكم التجارب والتوجهات الدينية وحتى الاجتماعية مع مرور الوقت، ومن الدارج في المجتمع أنه مع التقدم في العمر يتجه الكثير من الأشخاص إلى الالتزام الديني أكثر من مسألة الاهتمام بالهوايات بما فيها الاستماع إلى الموسيقى.
وبشكل عام، لا يمكن التعميم والجزم بأن النساء اللواتي تجاوزن الخمسين والستين عامًا في المجتمعات المحافظة لا يفضلن استماع أو غناء أغاني السيدة أم كلثوم، فقد يكون هناك أفراد في هذه الفئة العمرية يستمتعون بالاستماع إليها ويعتبرونها جزءًا من تراثهم الثقافي والموسيقي.