في قطاع غزة المحاصر، تعمل العديد من الفتيات الفلسطينيات في المحالّ والمجمعات التجارية، يكافحن من أجل البقاء ومواجهة الفقر والاستغلال والبطالة أيضا.
تعمل هؤلاء الفتيات لساعات طويلة مقابل أجور زهيدة لا تتناسب مع أوقات العمل والجهد الذي يبذلنه. ولكن القضية لم تكن في الأجور المنخفضة فحسب، بل تمتد المشكلة لتشمل سوء المعاملة والعنف اللفظي الذي يتعرضن له في كثيرٍ من الأحيان.
تضطر العشرات من هؤلاء الفتيات وبخاصة اللواتي يعانين من البطالة، إلى العمل في المحالّ والمتاجر في ظلّ الحصار الذي يعاني منه القطاع منذ سبعة عشر عامًا. يعملن من أجل تأمين قوت يومهن ودعم عائلاتهن في ظلّ تدهور الوضع الاقتصادي الذي زاد من معدلات الفقر والبطالة؛ الأمر الذي يجعلهن يقبلن بأجورٍ متدنية، بسبب الحاجة الماسة للعمل، غير أنّ ذلك يعد شكلاً من أشكال الاستغلال من قبل أرباب العمل.
لينا فؤاد، فتاة في العشرين من عمرها، كانت تعمل كبائعة في أحد المجمعات التجارية داخل قطاع غزة. تصف لينا تجربتها قائلة: "كنت أعود إلى البيت مُرهقة وقدماي منتفختين بسبب الوقوف لساعات طويلة لأكثر من ثماني ساعات من دون طعام. عندما أجوع، أخمد قرقرة معدتي ببعض البسكويت في أفضل الأحوال".
تعاني لينا ظروف صعبة، إذ كان مكان عملها في متجر صغير على الطريق العام. تأثرت صحتها بتلوث الهواء وضغط العمل لساعات طويلة. بالإضافة إلى ذلك، اتهموها بالغش والتهرب من عملها وشوهوا سمعتها، وخصموا نصف راتبها رغم طلبها مراجعة كاميرات المراقبة. لكن تم رفض طلبها، مما اضطرها لترك العمل.
تعيش لينا في أحد مخيمات المحافظة الوسطى في قطاع غزة. يوجد ثمانية مخيمات للاجئين في القطاع، ويعاني معظم سكانها من ظروف اقتصادية سيئة. ووفقًا للأونروا، يعيش حوالي ثلثي الفقراء في القطاع تحت خط الفقر الوطني.
تضطر لينا وأفراد أسرتها إلى البحث عن عمل منذ أن يبلغ الواحد منهم سن 18 عامًا، لمساعدة الأسرة وتلبية احتياجاتها. بعد تجربة لينا الصعبة، انتقلت للعمل مع شركة معروفة في متجر آخر بعد مفاوضات مع مدير العمل. بدأت لينا عملها بجهد كبير يتجاوز في بعض الأحيان 12 ساعة دون راحة.
تقول لينا: "تحملت ظروف العمل وضغطه. كنت أعود إلى البيت في الليل وحدي، على الرغم من عادات وتقاليد مجتمعنا التي تحظر خروج الفتاة في الليل بمفردها، ولكنهم لم يهتموا لهذا الأمر واستغلوا ضعفي وحاجتي للمال".
وما زاد من معاناة لينا هو عملها لمدة 4 أشهر دون راتب. بعد جهود يائسة، وافقت إدارة المتجر على دفع جزء من الأجر الذي كانت تستحقه، على الرغم من أن هذا الأمر يتعارض مع المادة (24) من قانون العمل الفلسطيني الذي ينص على أن صاحب العمل ملزم بدفع الأجر المتفق عليه للعامل.
سعاد راضي، في سن الخامسة والعشرين عامًا، تعاني أيضًا من الظلم المالي. تشتكي سعاد لـ "آخر قصة" قائلة: "في بداية عملي كنت أحصل على 250 شيقل في الأسبوع. واليوم أحصل فقط على 100 شيقل أسبوعيًا مقابل ساعات عمل طويلة من الثامنة صباحًا حتى الساعة التاسعة مساءً، وفي بعض الأيام حتى الحادية عشرة ليلاً".
ويبدو بوضوح أنَّ هناك تجاهلاً من قبل أرباب العمل لقرار مجلس الوزراء الفلسطيني الذي حدَّد مطلع العام 2022، الحدّ الأدنى للأجور في جميع مناطق فلسطين بـ (1880) شيكلاً للأجر الشهري (85 شيكلاً للأجر اليومي، و10.5 أجر عن ساعة العمل الواحدة).
يثير ذلك القرار تساؤلات حول مدى إمكانية تطبيقه خاصّة وأن الكثير من العمال يتقاضون أجورًا دونه وتحديدًا النساء منهم، إذ يُشار إلى أنَّ معدل الأجر اليومي الحقيقي للمستخدمين بأجرّ في القطاع الخاص بلغ خلال عام 2022 حوالي 93 شيقلًا في فلسطين؛ بواقع 38 شيقلًا في قطاع غزة، وفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
بدورها، أجابت هالة الشريف، عضو مجلس نقابة المحامين في قطاع غزة، بأنّ القانون قام بتحديد الحدّ الأدنى للأجور بواقع (1150) شيقلا وهو المعمول به. ومنذ أشهر أقرّ مجلس الوزراء الفلسطيني رفع الحدّ الأدنى للأجور، وكان هناك إشكال عليه ولم يُطبق.
وقالت الشريف لـ "آخر قصة": "من ناحية قانونية، إذا كان هناك اتفاق ما بين العامل ورب العمل فإنَّ ذلك يُعتَبر تنازلا ضمنيا عن الحق المنصوص قانونًا ويؤخذ بالاتفاق والأجر المتفق عليه."
وأوضحت: "بخصوص التعرض للعنف اللفظي أو الجسدي فهناك شق جزائي وآخر عُرفي وعائلي، إذ يُحدد فيه الموقف والمحاكمة وفق الفتاة وطريقة الحلّ التي تراها مناسبة لها".
أما فيما يخصّ استغلال الفتيات في المحالّ والمجمعات التجارية، أشارت الشريف إلى أن الأمر عائد بالدرجة الأولى إلى الوضع الاقتصادي الصعب الذي يُجبر الفتيات بقبول أجور قليلة أو تحمل أعباء الوظيفة وتعرضهن فيها للعنف بأي شكل من أشكاله، وفق قولها.
وتبقى معالجة الأمر مقصورة على تحسين الوضع الاقتصادي أولًا، بحسب الشريف، ثم القبول بما أقرّه مجلس الوزراء حول فرض الحدّ الأدنى للأجور.
ليس الاستغلال المالي والأجور المنخفضة هما المشكلة الوحيدة التي تواجهها النساء العاملات في المحال والمراكز التجارية، إذ تبين أن العديد منهن يتعرضن للعنف اللفظي من قبل أرباب العمل.
صفاء، التي عملت في محل تجاري يبيع الملابس النسائية لمدة 12 ساعة يوميًا مقابل 500 شيقل شهريًا، كانت ضحية للاستغلال والتهديد بالتسريح من العمل، وقالت إنها اضطرت لقبول هذا العمل بسبب حاجة عائلتها للمال.
تعيش صفاء مع والديها كبيري السن في مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، وتساهم مع أخيها المتزوج في إعالة العائلة ودفع تكاليف العلاج والغذاء.
تقول الفتاة التي اضطرت لترك العمل تحت وطأة التعرض للعنف اللفظي في سياق حديثه لــ "آخر قصّة"، "كان صاحب المحل التجاري يحاول إذلالي ولومي وتهديدي في أحيان كثير بحرماني من العمل، وقد كنت أقبل بهذا الأمر في البداية بدافع الحاجة، ومع تكرار الأمر اضطرت الفتاة لترك عملها والعودة إلى البيت لتصبح حبيسة الجدران في ظل محدودية فرص العمل التي يعانيها الشباب.
أمام ذلك الواقع، التقت آخر قصّة بمدير عام الإدارة العامة للتفتيش وحماية العمل في وزارة العمل في قطاع غزة، طلعت أبو معيلق، الذي أشار إلى أنّهم يطبقون قانون العمل الفلسطيني رقم 7 لسنة 2000، المعني بالعلاقات بين العمال وأرباب العمل من خلال أقسام التفتيش الموجودة في محافظات القطاع الخمسة.
وأوضح أبو معيلق أنّ هناك جهات مختصة في الوزارة لاستقبال الشكوى العمالية سواء كان العامل على رأس عمله أم لا، مبينّا أن باب استقبال الشكاوى متاح للفتيات لإنصافهم ومعالجة شكواهم وفقًا للقانون.
وحول مخالفة أرباب العمل للقانون، أكّد أبو معيلق على أن هناك عدة إجراءات تنفذها الوزارة، تتشكل في عمل محضر ضبط بالمخالفة والتجاوز من صاحب العمل، ثم إنذاره، مشيرًا إلى أن الملف يُحال بعدها للنيابة العامة لاتخاذ المقتضى القانوني بحق المخالف، دون أن يُشير إلى عدد الشكاوى التي تتلقاها الوزارة دوريًا وحجم هذه القضية مجتمعيًا.
تلتزم العديد من الفتيات الصمت تجاه المخالفات التي يتعرضن لها من قبل أرباب العمل، دون تقديم شكاوى رسمية. حفاظا على الأجر الشهري، وخشية أيضًا من الآثار الاجتماعية التي قد تحدثها هذه الخطوة.