في غزة، تلك المدينة التي اشتهرت بالفقد، ينتشر تقليد مؤثر يعكس روح العيد وحنين السكان لمن فقدوا من أشخاص في هذا اليوم بالذات.
يروي السكان قصصًا مليئة بالحب والحزن، حيث يستهلون فرحة عيد الأضحى بزيارة ضريح أحبتهم الذين استشهدوا في العدوان المتكرر على القطاع، أو توفوا لأسباب متعددة.
تأخذنا قصة "أم محمود سالم" وزوجها إلى مقبرة الشيخ رضوان غرب مدينة غزة، حيث يرقد ابنهما الشهيد، وتصحبان معهما حلوى "الغّرَيبة"، تعبيرًا عن حبهم لروح ابنهم. تنبثق من تلك القصة ألوان الأمل والوحدة العائلية في وجه الحزن العميق.
وفي هذه الزيارة المشبعة بالحنين والحزن، تجد السيدة سالم (54 عاماً) سبيلاً للتعبير عن مشاعرها وزوجها والتواصل مع أبنهم الذي غيبه الموت.
وبعدما انطلق مواطنون صباح عيد الأضحى إلى نحر الأضاحي، أنطلق آخرون نحو المقابر، حيث يجتمع الأهالي، سواءًا من أسر الشهداء أو غيرهم، حاملين معهم المصاحف والزهور. يتلون القرآن على أرواح الأموات ويسيطر الحزن على وجوههم، ولكن في ذات الوقت يشعرون براحة نفسية وروحانية تنبع من قربهم لأحبتهم في تلك اللحظات الخاصة، حسب تعبير الكثير منهم.
لا يقتصر هذا التقليد على أهالي الشهداء فحسب، بل يمتد أيضًا لأولئك الذين فقدوا أحبابًا قريبين، سواءًا كانوا أمهاتٍ أو آباءً أو أشقاءً أو أصدقاء. يأتي الرجل خالد عبد الحميد إلى المقبرة ليزور أخاه الذي فارق الحياة قبل 30 عامًا، حيث يعيد ذكريات طفولته وعادة أمه التي كانت تصحبه في زيارة المقبرة وتنثر الورود على الضريح. تظل تلك العادة حاضرة في وجدان خالد، وهو الآن من يحمل رسالة السلام لأخيه المتوفى ويوزع الحلوى على الناس تكريمًا لروحه ورغبةً في الغفران والقبول.
وغالباً تكون زيارة الأضرحة فرصة للفقراء ومقرأي القرآن لاكتساب الرزق، حيث يتجولون بين الأضرحة حاملين المصاحف، يتلوون بعض آيات القرآن على الأموات، وفي مقابل تلك القراءة يحصلون على تبرعات صغيرة كمساعدة لهم. وفي نوع آخر من التسول الخيري، يراود أطفال صغار يحملون جالونات الماء لتنظيف الأضرحة، آملين أن يحصلوا على صدقة من ذوي الأموات.
ليس فقط زيارة الأضرحة هي العادة المرتبطة بالعيد، بل هناك تقليد آخر يتعلق بالأسر المفجوعة. يفتح أهل المتوفى بيت العزاء في صباح العيد ويستمر حتى صلاة الظهر، حيث يقدمون التمر والقهوة للزائرين. وعلى الرغم من الحزن الموجود، يبادرون بتهنئة بعضهم البعض بالعيد، مما يظهر تلاحم المجتمع وقوة التضامن في تلك اللحظات.
يقول الأخصائي النفسي إسماعيل أبو ركاب إن هذه العادات تعكس الارتباط العاطفي العميق بين الأحياء وأرواح الأموات. إنها تعبير عن المشاعر الداخلية والحاجة لتكريم الأحباء الذين فقدوا، وتعكس أكثر من مجرد تقليد اجتماعي أو طقس تقليدي. ويشير أيضًا إلى أن الشعب الفلسطيني طبيعيًا متأثر بالمشاعر والحزن، حتى في أوقات الفرح.
تتجلى روح الوحدة والمحبة في زيارة الأضرحة في صباح العيد، حيث يلتقي الناس من مختلف الأعمار والأجيال لتكريم ذكرى الأموات. تنتقل الأجواء بين الحزن والألم والأمل والتفاؤل، مما يجعل هذه اللحظات فريدة ومميزة في قلوب الناس. على الرغم من أن العديد من خطباء المساجد قد حذروا المصلين منها في صلاة العيد، انطلاقا من قاعدة أن "العيد للأحياء وليس للأموات".
بالرغم من تنوع العادات والتقاليد في غزة، إلا أنها جميعًا تتحد في تعبيرها عن الحب والذكرى والتضامن في ظل الظروف الصعبة التي يعشها السكان. تعكس زيارة الأضرحة وزيارة بيت العزاء روح العائلة والمجتمع والاهتمام بالماضي والمستقبل، وتذكّر الناس بأهمية الحياة والتواصل مع أرواح أحبائهم الذين فقدوهم، وهو شيء يجعلها تعيش في قلوبهم رغم غيابهم الجسدي.