في أوائل حقبة الثمانينيات بدأت رحلة الموسيقار حسن الأستاذ (56 عامًا) في قطاع غزة، في فترةٍ برزت فيها الموسيقى الشعبية وكان يمكن سماعها في الأعراس والمناسبات الاجتماعية.
وكان هناك بعض الفرق الموسيقية التي تقدم الموسيقى الكلاسيكية والروحية في بعض الأحيان. ولمّا أن كان "العود" أكثر الآلات شيوعًا في الموسيقى الشعبية والتقليدية، بدأ شغف الأستاذ بتعلم العزف عليه وهو لم يتجاوز الأربعة عشر ربيعًا في حينها.
وانطلق ذلك الفتى في رحلته الموسيقية بالتعلم على يدّ الموسيقار محمد الجراح، الذي وصفه قائلًا: "كان معلمًا موهوبًا ومحبوبًا، وأتقنت على يده الموسيقى بعدما استلفت عدّة آلات إذ كان يندر توفرها في ذلك الوقت".
اليوم يمتلك الأستاذ أربع آلات ويرأس فرقة موسيقية، ومن بين تلك الآلات العود الذي يحظى بمكانة خاصّة في قلبه، ويصفه بـ "آلته المحببة"، فيما يمتلك العود أصالة وعراقة في قلوب الموسيقيين لتاريخه الطويل في الموسيقى العربية، إذ يعد رمزًا للتقاليد والثقافة الشرقية.
من العود إلى الساكسفون أتقن الأستاذ العزف، فيما تمتاز الأخيرة بصوتها الدافئ وتعدّ من الآلات التي تستخدم في الموسيقى الحديثة لا سيما الجاز وهو أكثر الأنواع الموسيقية شعبية حول العالم.
وعلى آلة الساكسفون قدّم الأستاذ أداءً مميزًا في الموسيقى العسكرية خلال عمله موظفًا في جهاز الشرطة الفلسطينية، ثمّ شكَل فرقة موسيقية فلسطينية في الضفة الغربية، وأصبح يقدم المعزوفات العالمية والأناشيد والسلام الوطني لمختلف الدول.
خلال عمله شارك الأستاذ في استقبال العديد من الشخصيات البارزة محليًا ودوليًا، منها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ورئيس جنوب إفريقيا سابقًا نيلسون مانديلا والرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك بالإضافة إلى مشاركته في افتتاح مطار غزة عام (1998).
لا شك في أنّ الأستاذ تأثر خلال مشواره الفنّي بالعديد من المطربين والموسيقيين العرب الذين أحدثوا تأثيرًا في عالم الموسيقى العربية، لا سيما محمد عبد الوهاب الذي كان يزخر بموهبة عزف العود والكمان، إلى جانب سيد درويش وهو من أشهر موسيقيي الأغنية الشعبية في العالم العربي، وكذلك اللبناني زكي ناصيف الذي يُعد أشهر الموسيقيين العرب في تاريخ العود.
وقال الموسيقار الأستاذ في حديثٍ مع "آخر قصّة"، "كنت أمارس الموسيقى بجانب عملي، ثم أصبحت مع الوقت والممارسة المستمرة شغفًا حقيقًا، وما زلت إلى اليوم أشارك في الاحتفالات المحلية على الرغم من التحديات التي يُواجهها مجال الموسيقى في قطاع غزة فهو مقبرة للفن والفنانين الذين يحفرون في الصخر لإسعاد الناس".
يواجه الفنانون الموسيقيون في غزة العديد من التحديات بدءًا من نقص الآلات الموسيقية المناسبة والمواد اللازمة لصنعها، وانعدام الدعم المالي والثقافي، وصولًا إلى القيود الثقافية والاجتماعية المفروضة على الموسيقى في بعض الأحيان.
وتفرض بيئة قطاع غزة "المحافظة" قيودا متنوعة على ممارسة الموسيقى، منها قيود دينية إذ يعتبرها البعض تتعارض مع الاعتقادات الدينية، فيما قد تُفرّض بعض تشديدات حكومية على أنواع من الموسيقى المسموح بها أو المحتوى الذي تتضمنه الأغاني.
بينما تنتشر الأغاني والأناشيد الوطنية كـ "العتابا والميجانا" التي تُرافق "رقصة الدبكة"، وتعد جزءًا لا يتجزأ من الثقافة الموسيقية الشعبية وتحتل مكانًا مهمًا من التراث والفلكلور الموسيقي الشعبي.
وبالإضافة إلى تلك القيود على الموسيقى، هناك تحديات اجتماعية فالبعض يراها أمرًا غير مقبول، وما تزال هناك تحفظات على النساء الموسيقيات تحديدًا، ومنهم الشابة شهد طلبة (23 عامًا) التي خرجت من عائلة فنيّة وتتعلم حاليًا على آلة العود بينما تفقد الأمل في العمل بالمجال الموسيقي.
تخرجت طلبة من تخصص الصحافة والإعلام، لكنها منذ الطفولة تميل إلى الفنون بأنواعها لا سيما الموسيقى، تقول، "والدي وأعمامي شكّلوا فرقة موسيقية في الثمانينيات لفترة قصيرة من حبهم وشغفهم في عالم الموسيقى، فالعزف والغناء هواية في عائلتنا".
وكانت الفتاة قد تلّقت دورة تدريبية في مجال الكتابة للموسيقى لكن عائلتها وعلى الرغم من كونها فنيّة؛ إلا أنّها رفضت بداعِ أنّ الأمر لا يتماشى مع مجتمع غزة ولتباين الآراء حول كونه "حلال أم حرام" دينيًا، حسب تعبيرها.
مؤخرًا بدأت طلبة تتعلم العزف على آلة العود التي تراها الأقرب لشخصيتها، وتقول، "عندما أخرج وأنا أحمل العود أرى الكثير من الناس ينظرون إليّ باستغراب، ففي مجتمعنا الفكرة غير مقبولة خاصة للبنات".
وقد يبدو مجال بيع الآلات الموسيقية غير شائع في قطاع غزة، بينما كانت "شركة الجرو موسيقى وصوت" من أوائل الشركات التي عملت في هذا المجال، إذ كان افتتاحها عام (1978م)، واهتمت بشكلٍ كبير في بيع الآلات الموسيقية والصوتية.
ترى رنا الجرو وهي مسؤولة قسم التسويق والعلاقات العامة في الشركة، أنّ الإقبال على مجال الموسيقى ازداد مع الوقت مقارنةً بالماضي؛ ما يعكس اهتمام الناس ووعيهم.
وبجانب بيع الآلات التي تواجه شركة الجرو تحديات في إدخالها من المعابر البرية، تقدم الشركة العديد من الدورات التدريبية للأشخاص المهتمين في مجال الموسيقى واستخدام الآلات الموسيقية.
ويتقاطع حديث كلٍ من الأستاذ وطلبة حول "آلة العود" كونها مقربة للقلب مع ما أشارت إليه الجرو بأنَّ العديد من الأفراد يُفضلونها، فيما يتجه المهتمون بالموسيقى الغربية نحو "الجيتار" الذي تواجه الفتيات تحديًّا في تقبل المجتمع لفكرة عزفهن عليه، إذ يتعرضن لانتقادات عندما يحملنه في الأماكن العامة، بحسب آراء بعضهن.
على الرغم من كافة القيود التي تعود للنظرة النمطية للموسيقى في قطاع غزة والتي قد تعيق من تطور المشهد الموسيقي المحلي؛ إلا أنَّ الموسيقيين يتحدون الواقع الصعب بالاستفادة من الموارد المتاحة لديهم بكل الطرق.
كما أنهم يستخدمون الموسيقى للتعبير عن مقاومتهم وقوتهم من خلال ألحانهم ويثبتون أنّ الفن قادر على تجاوز الحدود وإحداث تغيير إيجابي في الحياة اليومية للناس، وبث الأمل في نفوسهم.