يجلس المعلم أبو زكريا الجيار على باب متجره الصغير في البلدة القديمة بحي الزيتون جنوب مدينة غزة، المخصص لصيانة ماكينات الخياطة القديمة والتي يزيد عمر بعضها عن (150 عامًا).
ماكينات تبدو بالية، في الوقت الذي ترتفع فيه قيمتها المعنوية لدى الثمانيني الجيار، كلما تقادمت مع مرور الوقت، إذا يصفها وهو يشير بيديه إلى رفق مكتنز بالقطع "هن مثل أولادي".
وعلى الرغم من أن استيراد الملبوسات الجاهزة قد قضى على عشرات مصانع الخياطة التي كانت تعمل في قطاع غزة إلى جانب قيود الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع منذ ما يزيد عن 17 عاماً، لا زال العم أبو زكريا الجيار متمسكاً بمهنته التي بدأ العمل فيها قبل نحو ستين عاماً.
يتكئ الرجل في جلسته على عكازه، فيما هو يُعرِّض جسده النحيل لأشعة الشمس وعلى الرغم من ضيق دكانه إلا أنّ ماكينات الخياطة تتراص فيه ما بين الحديثة والقديمة واليدوية العمل، وعنها يقول، ""قضيت معظم حياتي في هذا المتجر وبين هذه الماكينات ولا أستطيع أن أتخلى عنها، هذه هي مهنتي التي أحبها جداً ولا أستطيع تركها حتى بعدما كبرت في العمر".
كانت أجمل اللحظات بالنسبة لأبو زكريا تلك التي يصلح فيها ماكينة مستعصية ويأخذها صاحبها سعيداً شاكراً لهذا الرجل الذي يلقب بـ"المعلم"، فإصلاح الماكينات وصيانتها هي بالنسبة له اللعبة الأكثر تسلية وسهولة مع تراكم سنوات الخبرة.
يشتهر أبو زكريا ببراعته في مجال إصلاح الماكينات فيستطيع أيُّ من المارة في هذا الحي القديم أن يدّلك على دكانه، يقول لـ "آخر قصّة"، "الجميع هنا يعرفونني جيداً بحكم خبرتي الواسعة، فأنا لكترة ما كنت أعمل في هذه المهنة ما كنت أجد وقت فراغ.. لقد مر وقت على الناس، الجميع لديه ماكينات خياطة وآلاف المصانع تتواصل عملها ليل نهار، وقد كنت حينها لا أتوقف عن العمل في إصلاح الماكينات إلى الحد الذي كان الزبائن ينتظرون على الدور لمدة أسبوع في بعض الأحيان".
وكعادته يجلس الجيار في ورشته المتواضعة مستمعاً لقنوات الراديو المختلفة ويبدو اهتمامه بهندامه واضحاً حيث بدلته الرسمية وقميصه الكروهات والتي لم يكن ليلبسها في شبابه خلال فترة عمله الطويل لانشغاله بالعمل، يقول: "الله يرحم أيام المريول الأزرق وزيت التصليح اللي ما كان يفارقني، كنت أعرف نوع الماكينة والعيب اللي فيها من صوتها أما الآن ما في شغل والمصانع كلها سكرت إلا ما ندر".
واشتهر قطاع غزة في حقبة التسعينات بقدرته على الحياكة، حيث ضم في مختلف محافظاته الخمس أكثر من ألف مصنعًا، وكان يعمل فيها من 15-20 ألف عامل، واستمر العمل بها حتى عام 2007 ( عام فرض الحصار)، وتراجع عدد تلك المصانع اليوم إلى نحو 160 مصنعا فقط.
وكانت أول ماكينة عمِل العمَّ أبو زكريا على تصليحها، هي ماكينة والدته حيث كان من الشائع أنّ السيدات الماهرات في حقبة السبعينيات والثمانينات من الفلسطينيات في قطاع غزة، يمتلكن ماكينة خياطة في بيوتهن يستخدمنها للحياكة بأجر، فقد اُشتهِر أن تُحيك العرائس جهازها من الملابس كاملًا لدى خياطة بارعة، أو يستخدمنها لأغراض الخياطة المنزلية الخفيفة لأبنائهن ولمستلزمات المنزل.
ولا يزال مصلح ماكينات الخياطة أبو زكريا الجيار يحتفظ بالذكريات المرتبطة بالأماكن التي زارها خلال حياته المهنية ومشاغل الهيئة الخاصة بتعليم النساء الحياكة، إذ كان يعمل فيها براتبٍ شهري يُقدَّر بـ " خمس ليرات" وهي حسب وصفه كراتب ضابط شرطة في ذلك الوقت (أيّ أعلى رواتب الدولة).
ويصفُ المعلم أبو زكريا موقفاً عالقاً بذاكرته يُبدي فيه براعته في المجال، حيث التفاف الفتيات المتعلمات في معاهد الخياطة حوله وهو يُطرز على طارة خشبية مشدود عليها قماش أبيض، فيما هُنَّ منبهرات بخبرته في الحياكة أيضا وليس إصلاح الماكينات فحسب.
على دراجة هوائية كان يتنقل أبو زكريا من مصنعٍ لآخر داخل مدينة غزة، ويصف نفسه في ذلك الوقت قائلاً: "كنت أطير من مكان لآخر على دراجة معدنية كبيرة لها صندوق مُعلق في مؤخرتها أضع فيه بعض قطع الغيار أو الماكينات الصغيرة التي يمكن نقلها من المصنع للورشة لإصلاحها في حال استصعب تصليحها في المكان لضيق الوقت".
ويبدو أنَّ الرجل قد تعلق جداً بتفاصيل مهنته وذكريات شبابه التي صنعها في عمل أحبه واعتاش وعائلته منه فتجده بين الفنية والأخرى يردد "عملي جزء من روحي كياني ماضيّ وحاضري وكل شيء أعرفه بحياتي هو هذا الشغل، صلحت ماكينات ع على عدد شعر راسي"، وقد نقل المهنة إلى أحد أبنائه ليُحافظ عليها من الاندثار إذ لم يعد الطلب عليها كما كان سابقًا فهي كما باقي المهن في غزة تأثرت بالأوضاع الاقتصادية المتردية.