"شبهتها بالدفاع المدني في خوفها علينا من القصف، ذلك الخوف الذي يُحركها لإدارة الأزمة في البيت بجدارة تامة، فطيلة خمسة أيام لم تنم ساعة واحدة مطمئنة البال"، قال ياسر أحمد عن زوجته الأربعينية التي لم تتلق محاضرة واحدة في فنّ إدارة الأزمات لكنها أمّ، حسبما وصفها.
وخلال التصعيد العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة والذي استمر من فجر التاسع من مايو إلى مساء الثالثة عشر، لم تغمض جفون لينا محمد (45 عامًا) وهي تُحاول إخفاء خوفها أمام أبنائها الذين طالما استيقظوا على أصوات القصف راكضين نحو أمهم.
تارةً تنقل الأطفال من غرفتهم التي تطلّ على الشارع العام خوفًا من القذائف أو تساقط زجاج النوافذ نتيجة القصف، وتُقرر بحسها الأمومي أن ينام الجميع في هذا الركن أو ذاك باعتباره الأكثر أمنًا حسب حدسها.
وتارةً أخرى تجدها تفتح النوافذ بما يُصطلح عليه في غزة "تنفيس الشبابيك" أيّ فتحها قليلًا؛ بغرض ألا تبقى مُحكَمة الإغلاق وتتهشم بفعلِ غارةٍ قريبة مُفاجِئة هنا أو هناك كيلا يتأذى أحدٌ من الصغار.
وفي ساعات الليل الأولى وعلى صوت الطائرات الحربية سرعان ما تتفقد السيدة أسطوانات الغاز في الشقة خشية تسريبٍ غير متوقع للغاز نتيجة استهدافٍ قد يُزلزل المحيط فيشتعل حريق مباغت يلتهم المكان.
"لا شعوريًا كنت أصحى أتفقدهم الثلاثة كل شوية، وطول الليل أتخيل سيناريوهات انه الغاز تسرب أو الشبابيك تكسرت فبضل قلقانة عليهم وحريصة انهم ما يخافوا". قالت لينا التي تعكف على قضاء الليل تروي القصص لأطفالها الثلاثة حتى يناموا.
أردفت السيدة في حديثٍ لـ "آخر قصة"، "رغم الخوف والقلق والهموم إلا إني كنت أحاول جاهدة أن أبث الأمل والقوة في قلوب أبنائي، وطوال الوقت أواسيهم وأمنحهم الأمان الذي نفتقده جميعا في غزة".
لم تكن لينا وحدها خط الدفاع الأول لأبنائها من الغارات والأيام الموحشة، فغيرها الكثير من الأمهات في قطاع غزة اللواتي عايشن مع أطفالهن ظروفًا قاسية خلال أيام التصعيد العسكري، فبعض الأطفال يخبرون القصف لأول مرة والكثير منهم كبروا ما بين عدوانٍ وآخر.
يقول محمد حامد (12 عامًا) في أمه التي كثيرًا ما خففت عنه وإخوته الضغط النفسي في ليالي التصعيد، "من الطبيعي أن نشعر بالخوف لحظات القصف لكن أمي تهون علينا الكثير باهتمامها بنا واستماعها لتخوفاتنا".
وتابع لـ "آخر قصة"، "والدي متوفي، وهي الأم والأب في البيت كانت تخاطر بحياتها لأجلنا، تذهب إلى السوق تحت القصف وتخاطر بحياتها وترفض أن أرافقها، توفر لنا الأساسيات والضروريات اللازمة".
وكانت والدة محمد (35 عامًا) تقضي الوقت في قراءة إرشادات السلامة خلال التصعيد، حسبما قالت، مشيرة إلى ضرورة أن تعي بكل التفاصيل وتعلم أبنائها كيف يتصرفون في حالات الخطر، أردفت، "وقبل النوم أتأكد عدة مرات من ابتعادهم عن أيّة مواد قابلة للاشتعال أو النوم بالقرب من الدواليب، خشية من أن تسقط فوقهم".
وتلعب الأم في أوقات التصعيد والقصف أدوارًا متعددة، وفقًا لأم محمد، فهي التي تقدم الرعاية وهي مصدر الدعم العاطفي، ويقع على كاهلها مسؤولية حمايتهم ومن واجبها بث الأمل والتفاؤل في نفوسهم حتى تتناسى خوفها وشعورها.
وعلى الرغم من هذا الدور البطولي الذي تلعبه الأمهات، إلا أنه ارتقت ثلاث نساء فلسطينيات خلال التصعيد الأخير على قطاع غزة، وتضررت مساكن العشرات منهن، فيما استشهدت 48 سيدة خلال أيار/مايو من العام 2021.
ووفقاً لمركز الإحصاء الفلسطيني، فإن أكثر من عشر الأسر ترأسها النساء في الأراضي الفلسطينية، بواقع 12% في الضفة الغربية و9% في قطاع غزة للعام 2020.
تمتد التأثيرات السلبية للتصعيد الإسرائيلي على غزة إلى كافة شرائح المجتمع، وفق المختصة النفسية والاجتماعية فلسطين ياسين، التي أكّدت على أنّ تجربة التصعيد ليست بالهينة البتة على الأمهات وأطفالهن، وتترك آثار عميقة في النفوس.
وقالت ياسين في لقاءٍ مع "آخر قصة"، "الأجواء المشحونة تتسبب بضغط نفسي كبير لجميع الأفراد وتحديدًا الأم، ففي الوضع الطبيعي تكون منشغلة بمهامها المنزلية التي تصارع لإتمامها على أكمل وجه لكن في أوقات التصعيد تصبح المعاناة مضاعفة".
ينبع قلق وتوتر الأم الشديدين من خوفها أن تفقد أحد أطفالها، بحسب ياسين، "ومجرد رؤية الأم لأطفالها خائفين تُرهق نفسيًا فتصبح كالدينامو الذي يحاول فعل أي شيء لبث الأمن في البيت وهي بذلك تطمئن نفسها أولًا".
لكن الأمر لا يعدو عن كونه مجرد طمأنة فالأم معرضة للاكتئاب والانهيار نتيجة الأحداث التي تصارعها لكن وجود أبنائها حولها طيلة الوقت قد يمنحها شيئًا من الثبات، قالت ياسين.
وعن حماية الأم لأطفالها نصحت بضرورة أن تعطي الأم مساحة لنفسها حتى تستطيع تقديم الرعاية لأطفالها، وتفادي سيطرة الخوف عليها من خلال تمارين الرعاية النفسية، والابتعاد عن الصور والفيديوهات الموجعة.
وقالت المختصة النفسية: "هذا سيساعد الأم على حماية أطفالها وإعطائهم الرعاية الصحيحة دون تعرضهم لضغط نفسي، كما يجب أن يمارس الأطفال روتين أيامهم الطبيعية دون السهر والجلوس على التلفاز والهاتف لساعات بحجة العدوان".
وختمت ياسين حديثها بضرب مثال للأم العاملة التي تكون تعمل في منزلها عن بُعد في ظروف التصعيد، فهي تكون بصراع نفسي حول إنجاز مهام عملها وبيتها، ودعت جميع الأمهات إلى تخصيص وقت للنفس قدر المستطاع بعيداً عن التوتر والأخبار السياسية في أوقات التصعيد.
وعلى مرّ السنوات التي تبقى فيها ذكريات القصف حاضرة ما بين واحدٍ وآخر وراسخة في النفس، إلا أن دور الأم يبقى أيضًا أساسيًا ولا يُنسى، فالأم بطلةً حُق أن يحتفى بها، ومثالًا يُحتذى بقوته وثباته وهي رجل الدفاع الأول للبيت بفطرتها وحنكتها.