الساعةُ تشير إلى الثالثة من فجرِ التاسع من مايو في هاتف مريم الشريف، تقف على النافذة تنظر إلى شوارع مدينة القاهرة حيث تقطن فترى العالم في حالةِ سكون، بينما هي استيقظت على وقع رسائل عدة تفيد بأنَّ قطاع غزة حيثُ تُقيم عائلتها يتعرض لانفجاراتٍ متتالية تُنبئ بعدوانٍ إسرائيلي وحالة من الغليان تسود السكان هناك.
مريم واحدة من أكثر من 383 ألف مغترب من قطاع غزة، يقضي العديد منهم فترات التصعيد والعدوان على القطاع وهم يحبسون الأنفاس، يتساءلون كم مرّة في العمر يُصارع المرء روحه؟ هل واحدة؟ اثنتان؟ نحن نموت مرات مُضاعفة قلقًا وخوفًا على غزة حيث الأهل والعائلة والأماكن والبلاد والذكريات كلها في مرمى الصواريخ هناك.
"آخر قصة" التقت بعضهم وقدمت سؤالًا: "ماذا يعني العدوان للمغترب من غزة؟، فاتفق جميعهم على أنَّ التصعيد يكون أشد وطأة وهم بعيدين عن أحضان عائلاتهم، فهم يتمركزون على الشاشات يرقبون الأخبار بقلقٍ شديد ويسجلون مع كل خبر أليم مواقف تُعادل العمر قسوةً ومشقة.
وبالعودة إلى مريم الشريف (20 عامًا) التي فارقت الأهل قبل عامين لدراسة الطب في مصر، تقول، "من الصعب جدًا أن تُقصف غزة ونحن ليسوا فيها، كل ثانية تمر عليّ في الغربة يراودني مليون تخيل، ومليون فكرة سيئة، يغلبني النوم فجأة فأصحو أراقب الأحداث والاستهدافات الجديدة في تلفوني".
تعيش مريم مشاعر الخوف على العائلة داخل غرفتها وحيدةً، وقالت لـ "آخر قصة"، "كل بالي وفكري يكون مع الأهل، أخاف أن يصيبهم مكروه وأنا لستُ معهم، والناس من حولي يعيشون حياتهم بشكلٍ طبيعي وفي ظلّ كل هذه الأحداث يكون الأصعب أنني مرغمة على مواصلة دراستي وعيش مشاعري لوحدي".
شاركها زميلها في التخصص محمد أبو ضباع، وقد بدت على نبرة صوته القهر وهو يقول، "كلنا نرى ونشاهد ما يحدث لأهلنا وشعبنا في قطاع غزة، صراحة شعور مخيف يجعلني في قلق مستمر وتوتر خاصّة أني مغترب وبعيد عن أهلي، وفي كل لحظة أفكر بالعودة".
قد يظنّ البعض أنَّ المغتربين كُتبت لهم النجاة من فِكاك الصواريخ لكنهم وحسبما أجزم الكثير منهم لم ينجوا من نوبات الهلع في هذا العدوان الذي استمر لخمسة أيام، وراح ضحيته 33 شهيدًا وأصيب 190 شخصًا فيما تضرر 51 منزلًا، ومع كل خبر يحمل استهداف أو استشهاد أو تدمير، يراودهم شعور أنّه يخص ذويهم دون غيرهم نتيجة فارق التوقيت في نقل تفاصيل الحدث بين غزة والبلدان التي يُقيمون فيها.
ومن مصر إلى تركيا حيث توجد إسراء الشريف وهي صحفية وباحثة أكاديمية غادرت قطاع غزة قبل نحوِ خمسة أعوام بغرض دراسة الدكتوراه في الإعلام، وكانت قد عاشت كافة تفاصيل العدوانات الإسرائيلية السابقة على غزة وسطَ العائلة لكن الأخير قضته وحدها في تركيا بنفسية محطمة وأعصاب مشدودة طوال الوقت، حسب تعبيرها.
"هذه المرة عشت مشاعر مضاعفة عن كل التصعيدات الماضية بين الأهل التي كنا نمارس فيها حياتنا بشكل طبيعي رغم أننا تحت القصف، أما وأنا وحدي هنا أتابع كل خبر وحرف وصورة وكل تعليق على منشور في منصات التواصل الاجتماعي ولا أترك مشهدا إلا وأراه وهذه المشاهد بالطبع تؤثر عليَّ أكثر بكثير مما لو عشتها في غزة"، قالت الشريف لـ "آخر قصّة".
"تجربة مريعة" هكذا وصف محمد إياد الذي سافر إلى فيتنام بغرض الدراسة موقف عصيب مرّ به خلال أيام العدوان الخمسة، يقول، "كنت أتحدث مع أمي مكالمة فيديو فقصفوا بجانب البيت، وصارت تصرخ وتقول لي (يما الحقني يما.. قصفونا يما) ووقعت على الأرض، في هذه اللحظة شعرت بعجزٍ شديد وأنني لا أستطيع أن أفعل شيئا وأحمي أمي وأهلي في هذا الوقت فكانت كلماتها مؤثرة للغاية أكثر من معناها، أدركت وقتها أنّه بالفعل الحرب مدمرة لسكان المدينة وللمغتربين على حدٍ سواء".
لم تختلف شهادة المغتربة إيناس أبو عويمر وهي خريجة هندسة حاسوب من جامعة "كارابوك" شمال تركيا، التي أكّدت على أنّها كغيرها الكثير من الطلاب في الخارج يتعرضون خلال العدوانات على غزة إلى كمية كبيرة من الضغط النفسي خلال متابعتهم للأخبار، وقالت، "الاحتلال وجرائمه تؤثر على القريب والبعيد".
الظروف ذاتها عايشها المغتربون في أكثر من مدينة ودولة حول العالم، وفي هنغاريا "المجر" حيث يُقيم الطالب في تخصص إدارة الأعمال أحمد ضاهر، الذي عدَّ معايشة ظروف العدوان على غزة وهو بالخارج موت بطيء، وقال، "في الغربة أموت ألف موتة كل يوم من أيام التصعيد، صدقًا الألم في الغربة موت مُضاعف".
وتابع بصوتٍ مُهتز بدا عليه التوتر الشديد، "عندما يكون الواحد منّا يعيش في غزة وسط أهله، فهو يرى المعاناة بأم عينه، ويتقاسمها مع العائلة، حتى على الأقل إذا استهدفوا وتعرضوا للموت سيكونون معاً وإذا فقد أحدهم فيحظى بفرصة إلقاء نظرة الوداع عليه".
ماذا عن إسراء مطر التي لم تُشارك أهلها إلا عدوان خريف عام 2008، فيما شُنّت عدوانات متكررة وهي بعيدة عنهم حيث تقيم في فلوريدا بأمريكا، تقول، "قضيت العدوانات وأنا فاتحة لأهلي محادثة كاميرا 24 ساعة، كنت أسمع معهم صوت الصواريخ، القذائف، أسمعهم بقرأوا الشاهدتين على أرواحهم وأنا ما قادرة أعمل شيء غير الدعاء".
وأكّدت مطر أنّها تقيم في أمريكا جسدًا بينما روحها وقلبها وتفكيرها كله مع العائلة في غزة، وكإسراء أيّضًا كان الصحفي أحمد أبو عيطة المتواجد في تركيا الذي قال لـ ""آخر قصة"، "نحن خرجنا من قطاع غزة لكن لم نستطع إخراج غزة من داخلنا، إننا نعيش نفس الألم والخوف، والمعاناة التي يعشها السكان هناك".
وما بين عدوانٍ وآخر على قطاع غزة تتكرر مشاهد القتل والأشلاء وتهجير السكان وسط استهدافاتٍ صاروخية أو قذائف منها ما هي مُباغتة دون سابق إنذار حسب شهادة الكثير منهم، وبين هذا وذاك يعيش الناس وذويهم في الغربة ظروفًا استثنائية غاية في القهر والضغط النفسي التي يصعب تجاوزها بسهولة.