تحت شجرة الجوز الضخمة الموازية لمسكن عائلة "نبهان" القاطنة في بيت لاهيا شمال قطاع غزة، كان أفرادها يجتمعون كعادة يومية صباحية، يعرضون خلالها أبناءهم من ذوي الإعاقة لأشعة الشمس، ومن ثم يرتشفون الشاي ويتبادلون أطراف الحديث عن واقعهم الاقتصادي المتردي.
غير أن الجميع اليوم يجلسون في حالة من الذهول تحت الشجرة ذاتها، وهم يرمقون مسكنهم الذي أصبح أثراً بعد عين، نتيجة قصفه من قبل طيران الاحتلال ظهر السبت الثالث عشرة من مايو.
هذا البيت المكون من أربعة أدوار دفن تحته ذكريات خمسين شخصاً-أربعة منهم من ذوي الإعاقة- وأقراص علاج وأدوات طبية مساعدة.
تقول سيدة مكتنزة من العائلة: "لم يسعفنا الوقت حتى نصحب أيًا من مقتنيات هذا البيت، بالكادّ نجونا بأنفسنا وأبناءنا من ذوي الإعاقة.. يا روح ما بعدك روح".
تحتضن السيدة وتدعى نجاح نبهان (57 عاماً)، ابنتها العشرينية أريج، والتي تعاني من نوبات صرع تلازمها منذ الولادة، وتعتمد على عقاقير خاصة، لتخفف عنها وطأة حالة التشنج والتي تنتابها بلا موعد.
كانت الفتاة تغطي وجهها بشال أسود، لم يبرز منه سوى عينيها الخضراوين، وقالت آخر قصة "لم نفعل شيئا للاحتلال حتى يدمر مسكننا بهذا الشكل.. لقد كنت نائمة ثم جاء أخي وصرخ بي قائلاً هيا قومي سيقصفون البيت فوق رؤوسنا .. ثم خرجنا نركض في الشارع بين أبناء عمومتنا دون غطاء رأس".
تغسل الجارات المجتمعات حول العائلة، وجه الفتاة بين الفينة والأخرى في محاولة منهم لإبقائها متيقظة، وقد عرف عن هذا الحي أن قاطنيه يؤازرون بعضهم البعض، فتفرق أبناء عائلة "نبهان" في بيوت الجيران التي فتحت لهم.
تقول السيدة نجاح :" مش عارفة أحكي عن خوفنا من القصف ولا عن فقدان البيت الوحيد للأسرة، ولا عن هم أولادي الأربعة المعاقين وخوفهم وأدويتهم وأجهزتهم وكراسيهم المتحركة!".
وخيمت حالة هلع على الأفراد من ذوي الإعاقة الحركية والذين لا قدرة لهم على الركض أو الهروب من وقع الخطر الذي طال مسكنهم، لولا مساندة أفراد العائلة.
ويبلغ عدد أفراد أسرة نبهان التي تقطن في الطابق السفلي من البناية 15 فرداً، أربعة منهم لديهم إعاقة جسدية وصعوبة في الحركة، إضافة إلى بعض الاضطرابات الذهنية.
آيات (29 عاما) وحنين (16 عاما) تعاني من مشاكل صحية في ساقيها ولا تستطيع المشي، وأريج (18 عاما) تعاني من زيادة نسبة في كهرباء الدماغ، وجلال (38 عاما) يعاني من إعاقة حركية وحالة نفسية، وهي أمراض يقولون إنها متوارثة ويصعب عليهم علاجها وتأمين الدواء لها، نظراً لسوء الأوضاع الاقتصادية.
وحين يجتمع دمار المنزل والمأوى مع المرض والفقر، تبدو الأمور أكثر صعوبة وخاصة أن هذه العائلة تعيش على المساعدات التي تقدمها بعض المؤسسات وما تجود به أيدي الناس من فاعلي الخير على صعيد الأدوية والمأكل، حسب إفادة أفرادها.
ويترك العدوان بصماته القاسية في القطاع الذي تبوء كل محاولات النهوض به بالفشل، في ظل الازدياد المطرد في نسبة الفقر والتي بلغت 50% ما يعني أن نصف المجتمع يعاني ظروفا معيشية صعبة، فضلاً عن أن أكثر من 80% من السكان يعتمدون على المساعدات الإنسانية، وفق تقديرات المنظمات الدولية.
ولا زلت حالة الصدمة تسود كل من عاش في هذا المنزل لجهلهم سبب قصف منزلهم بهذه الطريقة الوحشية وهم بالكاد يملكون قوت يومهم وحتى شبابهم يعانون من البطالة ويعملون بشكل يومي في حال وجد عمل في بعض أراضي محيطة بهم.
على هامش الجلسة تحت الشجرة إياها، تتكوم بعض أدوات الطهي المتهالكة، تشير السيدة منال نبهان زوجة الابن جلال، بيدها وتقول: " هذا ما استطعنا إخراجه قبل قصف المسكن، وهي أدوات من الأصل تبرع بها فاعلو خير من الجيران.. كل شيء انتهى، ويا ليت تقف المأساة عند هذا الحد، فقد أصيبت ابنتي الوحيدة التي أنجبتها بعد سنوات من العقم، بجروح غائرة نتيجة القصف"، مشيرة إلى أن أسرتها تعتمد على فتات الخبز من أجل إشباع جوعها في ظل انعدام فرص الدخل.
ويعد بيت عائلة نبهان واحدًا من أصل 51 وحدة سكنية، تم تدميرها كليا خلال العدوان الأخير على قطاع غزة والذي استمر منذ (9 -13 مايو)، فيما تضررت 940 وحدة سكنية جزئياً، منها 49 وحدة سكنية باتت غير صالحة للسكن، وفق إحصاءات أولية.
وتعتبر نسبة الأشخاص ذوي الإعاقة في الأراضي الفلسطينية، الأعلى على مستوى العالم، حيث تصل إلى 3.5% من مجموع السكان، وترتفع في قطاع غزة بشكل خاص لتصل إلى نحو 4%، نتيجة التصعيد المتكرر.
ويقول الناشط في قضايا ذوي الإعاقة مصطفى عابد إن هذه الشريحة بحاجة ماسة إلى العديد من الخدمات، وفي مقدمتها الدعم النفسي في ظل الظروف الراهنة.
وأشار عابد إلى أن الأشخاص ذوي الإعاقة يعانون الأمرين في ظل عجز الغالبية منهم عن التعامل مع أوضاع الطوارئ، لا سيما أصحاب الإعاقات الحركية والبصرية، لأن قدرتهم على النزوح من المساكن المهددة والأماكن الخطرة، محدودة جداً.