يُثير مشهد مشاركة المقاطع المصورة للموائد الرمضانية وأصناف المأكولات والحلويات على منصات التواصل الاجتماعي علامات تعجب أمام الكثيرين، في مجتمعٍ يعاني ويلات الظروف الاقتصاديّة الصعبة وارتفاعٍ حادّ لمؤشرات الفقر والبطالة، جعلت من هذه الظاهرة ما يُمثِل اصطناعًا لترفٍ غذائي مفقود في قطاع غزة المحاصر.
وفي الوقت الذي يرى فيه البعض أنّ مشاركة الموائد أمرًا طبيعيًا ينمّ عن حب مشاركة اليوميات مع الآخرين في زمن الانفتاح الذي صنعته مواقع التواصل، يرى غيرهم أنّ فيه عدم مراعاة لمشاعر الكثيرين ممن يُكافحون لضمان توفير وجبة طعام واحدة لأسرهم.
يأتي ذلك في ظلّ تصريحات "للأونروا"، تشير إلى أنّ مليون ومئتي ألف نسمة أيّ نحو نصف السكان يتلقون مساعدات غذائية، مقابل زهاء 81 ألف غزية يستفيدون بشكلٍ رئيس من مخصصات وزارة التنمية الاجتماعية التي تقدمها كل ثلاثة شهور أو أكثر للأسر الأشدّ فقرًا وذلك فيما يُعرف غزيًا بـ "شيك الشؤون الاجتماعية".
من هذه الأسر عائلة عادل قديح (48 عامًا) الذي يُعيل أسرته المكونة من 9 أفراد فيما هو عاطلٌ عن العمل منذ عامين، وقد تقدم بطلبٍ للعمل في الأراضي الفلسطينية المحتلة لكن لم يُحالفه الحظ حتى الآن؛ ما جعله يضطر لتقنين النفقات خلال شهر رمضان الحالي.
يقول قديح الذي يعمل حالياً سائق أجرة لـ"آخر قصة"، إنه اضطر للتوقف عن إعداد مائدة طعام السحور لأسرته واكتفى بتحضير السندويشات من المرتديلا والجبن فقط، كما أوصى زوجته بإعداد صنف واحد فقط على مائدة الإفطار.
وعلى الرغم مِن أنّ الطعام بالكاد يسدّ رمق أطفال قديح إلا أنّه قانعًا راضيًا، لكن ما يُنغص عليه هو ما يُشاهده من صور موائد رمضانية مبالغ فيها على "فيسبوك"، حسبما قال، وأضاف، "ينتابني القهر وأتساءل ماذا يفعل هؤلاء بالطعام الزائد؟ هل يلقونه في القمامة؟ على كل حال لا أعتقد أنهم يتناولنه في إفطار اليوم التالي".
وكان من المفترض أن يُعلن عن موعد صرف دفعة من مخصصات الشؤون الاجتماعية قبل بدء شهر رمضان الحالي؛ إلا أنّه لم يتمّ بعد وما زالت وزارة التنمية الاجتماعية بغزة تنفي ورود أيّة معلومات لديها حول إمكانية الصرف قبل عيد الفطر، فيما لم تتلق الأسر المستفيدة من هذا البرنامج أيّ دفعات مالية منذ سبتمبر الماضي.
تحت واقع هذه الأوضاع الاقتصادية التي تشتدّ تأزمًا على الأسر الفقيرة، ترى فايزة أبو عواد (39 عاماً) وهي ربة منزل تسكن مدينة غزة، أنّ صور الموائد الرمضانية التي يشاركها أصحابها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تُظهِر مشهداً مغايراً للواقع الغزي المزدحم بالأزمات الحياتية التي حوّلت حياة الغزيين إلى جحيمٍ لا يطاق.
بدوره، اتفق المحلل الاقتصادي ماهر الطباع مع ما أشارت إليه أبو عواد فيما تصنعه مواقع التواصل من تزييف للواقع الذي يفرض نفسه في قطاع غزة، والمتمثل في ازدياد مستمر لشريحة الفقراء بالإضافة إلى معاناة فئة كبيرة منهم من انعدام الأمن الغذائي.
وفسّر الطباع خلال حديثه مع "آخر قصة" مصطلح انعدام الأمن الغذائي الذي أشارت إليه إحصاءات الأونروا، وقدّرت أن 81.8% من الأفراد في غزة يعيشون تحت خط الفقر ويعاني 64% من انعدام الأمن الغذائي، بأنّ ذلك يعني عدم القدرة على توفير الغذاء في كافة الأوقات، بسبب زيادة استهلاك الغذاء وتقلبات الإنتاج والأسعار.
وبالعودة للسيدة أبو عواد التي تحدثت عن مائدة رمضانية أعدّتها ضمت ورق العنب، وشوربة وبعض قطع السمبوسك والعصير، وقالت إنها مائدة قد تستطيع الكثير من الأسر توفيرها؛ غير أنّها أبدت استغرابها من نشر إحدى صديقاتها على مواقع التواصل الاجتماعي لسفرة تضمّ 7 أصناف لإطعام أسرتها المكونة من 5 أفراد فقط.
وعلّقت السيدة في حديثها مع "آخر قصة"، "عندما شاهدت تلك الصور على حساب صديقتي عبر انستقرام، انتابتني سخرية كبيرة، وتساءلت إن كانت لا تزال تعيش معنا في غزة أم انتقلت للخارج إلى حياةٍ أفضل".
تعتقد أبو عواد أنّ معظم مَن يَنشر صور الموائد عبر مواقع التواصل هم نساء. وقالت: "أظن أنّ ذلك يمنحهن شعوراً بالانتصار والتفوق والامتياز على بعضهن البعض".
واتفق تمامًا مع قول أبو عواد الخبير النفسي والاجتماعي إياد الشوربجي إذ أشار بأنّ الأمر يندرج في إطار استعراض مهارات الطهو والمنافسة بين السيدات خاصة الشقيقات أو القريبات في إطار العائلة الواحدة، فيدور تنافس حميم على صنع موائد رمضانية أكبر وتضمّ أصناف أكثر.
فيما يرى الطباع أيضًا أنّ في الأمر محاولة لإظهار رفاهية غير معهودة على موائد الغزيين، يعود لأسبابٍ قد تكون نفسية أكثر منها اقتصادية، مبينًا أنّ الموائد الرمضانية لا تُظهر المستوى الاقتصادي الحقيقي.
وقال الطباع إنّ مشاركة الموائد متعددة الأصناف بكثرة للعلن أمر يتعلق ببحث الإنسان دوماً عن الظهور بمظهرٍ اجتماعي مميز أمام الآخرين لاسيما الأقارب أو الأصدقاء، وهو ما وصفه الشوربجي بالمرض النفسي الذي يتمحور حول التباهي والتميز.
وبيّن الشوربجي في حديثه لـ "آخر قصة"، أنّ نشر صور الموائد الرمضانية يفتح أمام الأزواج باب المقارنات بين زوجته وزوجات الآخرين؛ ما يُسبب مشاكل أسرية كبيرة أو اتهامات لبعض الزوجات بعدم القدرة على إعداد طعاماً مميزاً كالذي يراه عبر منصات التواصل عبر صفحات أقربائه.