اعتاد الناس على إصابة كبار السنّ بأمراضٍ مزمنٍة كضغط الدم والسكري أو القلب، كما اعتادوا رؤية علب الدواء تُقيم فوق منضدّة أَسِرتهم، لكن الغريب أن تنتشر هذه الأمراض في سنٍّ مبكرة، خاصّة ممن هم في سنّ الثامنة عشر فأكثر، وهذا ما حدث مع رجاء حسين تمامًا.
وكانت رجاء في الثامنة والعشرين من عمرها عندما أصيبت بارتفاع ضغط الدم وهي حبلى بطفلها الأصغر (محمد)، فيما كانت تعتقد أنّ ذلك سينتهي بانتهاء الحمل؛ لكن المفاجأة أنّه صاحبها إلى اليوم وقد تجاوزت الخامسة وثلاثين عامًا.
تقول السيدة التي علت وجنتيها حمرة دائمة وانتفاخ مستمر أسفل العينين بفعل مرضها المُزمن، "كنت أشعر بالخجل عندما أذهب إلى قسم الأمراض المزمنة في عيادة الحي للحصول على العلاج وأنا صبية في العشرين بينما معظم الحاضرات بعمري هنّ مرافقين أبويهم أو ذويهم من كبار السنّ".
وقد انعكس ما أُصيبت به رجاء على ما أظهرته إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بارتفاع نسب الإصابة في الأمراض المزمنة بين الأفراد (18 سنة فأكثر) المصابين بمرضٍ مزمن واحد على الأقل بشكل طفيف خلال العقد الماضي إذ بلغت هذه النسبة في العام 2010 حوالي 18%، وارتفعت لعام 2021 لتبلغ حوالي 20%.
وكانت أظهرت بيانات للعام 2021، أنّ أكثر من ثلثي كبار السنّ في فلسطين مصابين بمرضٍ مزمن واحد على الأقل، وتتفاوت النسبة بشكلٍ كبير بين الذكور (66%) والإناث (76%)، فيما يُعرَف طبيًّا أن فرصة الإصابة بالأمراض المزمنة تزداد مع التقدم في العمر.
ويتطلب من المصابين بالأمراض المزمنة مراجعة مستمرة في عيادات الرعاية الصحيّة الأولية، إذ بلغ إجمالي الحالات المسجلة من الأمراض المزمنة من سكري وضغط في قطاع غزة 165.213 حالة بنسبة ارتفاع 3%، مع العلم أن 84.4% من المرضى المسجلين تلقوا الخدمات الصحيّة في مراكز الرعاية الأوليّة التابعة لوكالة الغوث، فيما بلغ إجمالي الزيارات لعيادات الأمراض المزمنة (السكري والضغط) بوزارة الصحة 212,736 زيارة.
بشكلٍ عام يُشرف على تقديم الخدمات الصحية في فلسطين أربعة قطاعات رئيسية، وهم القطاع الصحي الحكومي، وكالة غوث وتشغيل اللاجئين، المنظمات غير الحكومية، والقطاع الخاصّ، وبلا شك فقد لعبت هذه القطاعات دوراً تكامليًا لتقديم الخدمات الصحية في عموم فلسطين.
وشهد عام 2021 ارتفاعًا في عدد مراكز الرعاية الصحية الأولية إذ بلغ العدد (765 مركزًا) بينما كان في عام 2010 (706 مركزًا)، وتحتل المراكز التابعة لوزارة الصحة الفلسطينية النسبة الأكبر منها إذ شكّلت 64%، أما المستشفيات فقد ارتفع العدد من (76 مستشفى) في عام 2010، إلى (89 مستشفى) في عام 2021 من بينهم (35 مستشفى) في غزة ما بين مستشفيات تخصصية وعامة.
على باب غرفة الطبيب رقم (5) في أحد مراكز الرعاية الصحية بقطاع غزة، يرتكز أبو خالد (68 عامًا) ويرفض أن يطفئ سيجارته رغم التشديدات بمنع التدخين في العيادات والمستشفيات، ويمتنع الرجل عن الإقلاع عن التدخين رغم ما أصابه من مرض "ارتفاع ضغط الدم" و"انسداد شرايين القلب".
وقال الرجل غير آبهٍ لتأثيرات هذه السجائر على صحته، "العمر واحد والرب واحد"، مبينًا تمسكه الشديد بالدخان عندما سخر قائلًا: "انه رفيق العمر" إذ قضى معه رحلة 30 عامًا، فيما لم يمضِ بضعة شهور فقط على عملية القلب الجراحية التي أجراها لتركيب دعامة في القلب.
وكانت أظهرت بيانات لمنظمة الصحة العالمية ارتباطًا مباشرًا بين الإصابة بالأمراض المزمنة والتدخين تحديدًا، كما أشارت الإحصاءات إلى ارتفاعٍ في نسبة التدخين بين الأفراد (18 سنة فأكثر) في عموم فلسطين منذ عام 2010 إلى عام 2021 بنسبة تصل إلى نحو 31%.
لكن البيانات أجلت عن فجوة كبيرة بين الضفة الغربية وقطاع غزة وارتفاع واضح في انتشار التدخين بالضفة إذ ارتفعت النسبة من (26%) عام 2010، إلى (40%) عام 2021. في حين شهدت ارتفاعًا بسيطًا في قطاع غزة مقارنة بالضفة الغربية من (15%) عام 2010، إلى (17%) عام 2021.
حالة عدم الاكتراث الصحي التي يُعانيها أبو خالد بجانب اللامبالاة التي تُصيب العديد من السكان في قطاع غزة، يُرجعها المختصين النفسيين إلى الظروف الاقتصادية والسياسية المتوترة التي يشهدونها يوميًا ما بين تصعيد من الاحتلال الإسرائيلي وارتفاع لمعدل الفقر الذي أصاب معظم السكان في غزة بنسبة تصل إلى 81.8%.
وانعكس ارتفاع معدل الفقر في قطاع غزة على مختلف أنماط الحياة لكنه أثرّ بوضوح على الأوضاع الصحية للأطفال لاسيما سوء التغذية، وهو ما أصاب قصي وادي (4 أعوام)، تقول والدته، "عندما أنجبته كان يعاني من نقص وزن فقد ولّد بوزن (1.72 كيلو)، ورغم كل محاولاتي من توفير الفيتامينات له والرضاعة الطبيعية إلا أنّه ما زال لليوم يعاني من الهزال".
ويزن الطفل قصي اليوم (11 كيلو) فقط، فيما يُقدّر الوزن الطبيعي للأطفال في عمر 4 سنوات ما بين (17 – 20 كيلو)، وتخشى عليه السيّدة اختلاطه بالأطفال من عمره خاصّة في رياض الأطفال فلم تسجله بعد للدراسة لسهولة انتقال الأمراض إليه نتيجة ضعف مناعته، وما زالت تحاول التحسين من ظروف صحته فتجدها تنتقل به ما بين مرفقٍ صحيّ لآخر وتتابع حالته الصحيّة.
ويمثل قصي ما نسبته 2% من الأطفال دون الخامسة الذين يعانون من نقص الوزن في فلسطين، ونحو 1% آخرين يُعانون من الهزال، فيما يعاني ما نسبته 9% من الأطفال في عمره أو أقل من قصر القامة، وفق بيانات المسح الفلسطيني العنقودي متعدد المؤشرات في عام 2020-2019م.
وبالعودة إلى أصلّ حالة الطفل قصي، تستدرك والدته في محاولة للوم نفسها، "ولدته ولادة قيصرية، كنت أعاني طوال فترة حملي به من ضعف الدم، وكان حملي به ضعيفًا وقد نصحني الأطباء في الأشهر الأولى بتنزيله لضعف نموه لكني رفضت أن أقوم بذلك بنفسي، إلى أن أنجبته بعملية قيصرية كدت أخسر فيها أحدنا".
وشهد العام 2020 ازديادًا ملحوظًا في نسب العمليات القيصرية في قطاع غزة، وأظهرت النتائج أن نسبة الولادات القيصرية وصلت في غزة إلى 22% مقارنة بـ 14% فقط في عام 2010.
إضافة إلى ذلك فقد امتدت تأثيرات الأوضاع الاقتصادية إلى الإصابة بالعديد من الأمراض النفسية لاسيما الاكتئاب الذي شهد ارتفاعًا في العقد الأخير، إذ أظهرت بيانات مسح الظروف النفسية عام 2022 أنَّ أكثر من نصف الأفراد (18 سنة فأكثر) في فلسطين، يعانون من الاكتئاب وقد بلغت النسبة في قطاع غزة 71%. وهو ما يُفسر اضطرار العديد من الشبان للهجرة نتيجة ما يُقاسونه من انتشار الفقر وارتفاع البطالة بمعدل 45% واضطرارهم تأمين قوت يومهم وأسرهم.
وأكثر ما يُهدد القطاع الصحي هو هجرة الكفاءات من الأطباء ففي مساحة القطاع التي تقدّر بـ ( 365كم²) يُفترض أن يتوفر (4 أطباء) لكل ألف نسمة وفقًا لمعايير منظمة الصحة العالمية، أيّ ما يزيد عن 14 ألف طبيبًا، لكن ما يشهده الواقع رغم الارتفاع الحاصل في العقد الأخير هو وجود 6.035 طبيب في قطاع غزة فقط، ونحو 10.984 ممرض؛ مما يُنذر بخطرٍ حقيقي لقطاع الصحة.
تراود فكرة "الهجرة" العديد من الأطباء في قطاع غزة بشكلٍ واقعي وملموس، منهم الطبيب سامر صلاح (39 عامًا)، وهو طبيب أسنان يعمل في عيادة أحدّ أصدقائه بأجرٍ شهري لا يتجاوز (ألفي شيكل) وهو ما لا يكفي لسدادّ التزاماته ويُراكم الديون عليه شهريًا.
ويرى طبيب الأسنان سامر، وغيره الكثير من الأطباء أن مستقبل أطفالهم وتطور مهنتهم يبقى مرهون بالظروف الاقتصادية المتردية والسياسية المتأرجحة داخل قطاع غزة فيفضلون الغربة على كل "سيئاتها" أمام واقع لا يحقق النذر اليسير من متطلبات الحياة الكريمة.