وقتما كان يحين موعد الأذان، كان الزقاق الضيق الذي يفصل منازل مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة يعج بحركة الأطفال، فيما كانت تُسمَع طقطقة الأبواب من كل اتجاه وهم يحملون أطباق الطعام الدوارة من جارٍ إلى جار فتتزين سفرةِ الإفطار الرمضانيّة بالأصناف الغنيّة من أكلات الجيران، أما اليوم فلم يعد شيئا من هذا.
يقول أبو أحمد (50 عاماً) الذي كان يجلس على طاولةٍ خشبية صغيرة في زقاق المخيم رفقة اثنين من أصدقائه، "زمان كنا نقدر نساعد بعض اليوم إذا أكلنا احنا وأولادنا نعمة وفضل.. كلنا زي بعض وضعنا تعبان".
مع دخول رمضان لم يتغير شيئا على الجلسة المسائية لهؤلاء الرجال الذين ولدوا داخل المخيم الذي مضى على بناءه أكثر من 70 عاماً. غير أن الجلسة أصبحت تمتد حتى اقتراب موعد السحور، وهي غالبا ما تكون على وقع العتمة، لاسيما بعد انقطاع التيار الكهربائي الذي يستمر ثمان ساعات في أحسن أحواله.
جلسة لا تخلو من شكوى ضيق الحال ومحدودية الأفق، ويتخللها الكثير من الحديث في السياسة والظروف الاقتصادية التي تنعكس سلباً على السكان، لاسيما أهالي المخيمات الذين يعيشون على المساعدات الإغاثية التي تُقدمها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا).
ومخيم الشاطئ هو واحد من ثمانية مخيمات للاجئين موزعة على خمس محافظات على امتداد قطاع غزة، إلا أنه يعد أكبرها، حيث يعيش فيه أكثر من 82 ألف لاجئ، على مساحة هي أقل من كيلومتر مربع، على شاطئ البحر المتوسط غربي غزة.
وإذا كانت تتشابه أجواء المخيمات نظراً لطبيعة المكان وبنيويته المُتلاصقة، إلا أن الظروف الاقتصادية قد باعدت إلى حدٍ ما بين لُحمة الجيران التي استمرت لسنواتٍ طويلة كان الناس فيها يتبادلون أطباق الطعام ويستلفون أرغفة الخبز، وحتى الخضار إن شئت، على شاكلة "بتسلم عليكي أمي، وبتحكيلك بدها حبتين بندورة تعمل سلطة"، حتى هذه الصيغة انقرضت يقول "أبو أحمد"، ورفاقه.
يشير الرجل، إلى بيتٍ لا يتجاوز ارتفاع سقفه الصفيحي مرتين ونصف، قائلاً: "انظري إلى طول هذا الجدار، لقد كانت الجدارن الاسمنتية التي تفصل مساكننا بهذا الارتفاع وأقل من ذلك، وكنا نستبدل الأطباق من فوقها، بما في ذلك أطباق الحلويات التي كانت تصنع في رمضان، كالكعك والمبشورة والحلبة وغيرها، أما اليوم فقد أصبح ذلك من الماضي، بحكم ظروف السكان".
وبلغت نسبة الفقر في قطاع غزة (53.0%) مما يعني أنَّ أكثر من نصف السكان يُعانون ظروفًا مادية قاسية، ووفقًا للأونروا يحتاج أكثر من 80٪ منهم للمساعدات الإنسانية ويعتمد أكثر من مليون شخص على المساعدات الغذائية الطارئة كمصدر رئيسي للغذاء.
ويقول أبو أحمد على استحياء في حديثه لـ "آخر قصّة"، "اليوم لما جاري يقدملي صحن طبيخ صرت أخجل صراحة ما بعرف شو أرجعله فيه"، ولكن حسبما قال فإنّ المخيم كله ينتعش عند صرف "شيك" الشؤون الاجتماعية فتجدهم يعودون من السوق مُحملين بأكياسٍ ممتلئة بالمستلزمات، غير أنها بالكادّ تكفي احتياجات الأسر، لهذا يمتنعون عن تقاسمها مع جيرانهم، إلا ما ندر".
ويستفيد نحو 80 ألف مواطن من سكان قطاع غزة من شيكات الشؤون الاجتماعية، التي تُصرف بمبالغٍ مختلفة وفق محددات مُعلنة، إلا أنّ مواعيد صرفها غير منتظمة إذ تنقطع إلى ما يمتد لـ 3-6 أشهر أو يزيد عادةً.
وكان من المتعارف عن مخيم الشاطئ المُطل على بحر غزة أنّه لا ينام في رمضان ما بين سهرٍ للكبار والصغار والنساء، خاصّة عندما يتزامن الشهر مع ليالي الصيف الحارة، فتجد سكانه يقضون وقتهم مجتمعين بأجواءٍ احتفالية يشربون الشاي والقهوة ويتناولون القطائف والكعك.
ومن حول الكبار يتفنن الأطفال بإشعال الألعاب الناريّة لاسيما المفرقعات و"سلك الجلي" والتنافس بتقديم عروض مُبهجة رغم خطورتها فيخترق سمعك بين الفنية والأخرى صراخ أحدهم بعدما أصابته لسعةً من السلك المشتعل وسط ضحك الآخرين وتهديد الأم: "إذا ما سكتت حدخلك الدار تنام بدري"، وكأنّ السهر مكافأة يوم صيام طويل للكبار والصغار.
لكن هذه المظاهر لم تعد تشبع حنين أبو أحمد ورفاقه لأيام الزمن الجميل، إذ يقول حتى شكل اللعب بين الأطفال قد طرأ عليه الكثير من الاختلاف. مشيراً إلى أنه كان ورفاقه يصنعون فوانيس رمضان من علب البقوليات الصفيحية، إذ يقومون بتثقيب قاعدتها ويحملون طرفيها بسلك ويثبتون في منتصف الشكل الاسطواني شمعة، ويجوبون شوارع المخيم وهم يغنون "وحوي يا وحوي" (أغنية مستوحاة من التراث المصري).
ويلفت إلى أن الأطفال في الغالب الآن يقضون وقتهم أمام شاشات الهواتف لاسيما أولئك الذين تملك أسرهم القدرة على اقتنائها، وأخرون يلعبون بالمفرقعات. مقارناً الجيلين الحديث والقديم بالقول: "احنا فعليا ما كنا انام.. كنا نلعب شريدة واستغماية والبنات كانت تلعب حجلة، ونصنع فوانيس يدوية ونتمرجح على المراجيح إلي كنا نصنعها بأبدينا.. كنا نعلق حبلا بين شباكين متوازيين بين زقاق ونضع فوقه وسادة ونتأرجح بالمجان".
وفي جانبٍ آخر من الشارع الممتد يُعلِّق محمد سالم (30 عاماً) "ضوء ليد" عند مدخل بيته الاسبستي مُعانداً جداول الكهرباء في القطع والوصل، وقد أشعل النار لتؤنس مجلسه هو اربعة آخرين من رفاقه الذين غلب عليه الضحك والفكاهة في مُحاولةٍ للتغلّب على ما يُقاسونه من حال، فالرفاق الخمسة خريجي جامعات بيّد أنهم لم يجدوا عمل يُلاءم شهاداتهم العلميّة.
يقول سالم لـ "آخر قصّة، "كل يوم نبحث عن عمل وعندما لا نجد نقبل بأي شيء فنعمل عمال بمكافأة 20 شيكل في اليوم ونلتقى أشكال من الإهانات بصمت". وسالم ورفاقه أحد 13,948 خريج وخريجة من مؤسسات التعليم العالي في قطاع غزة، الذي يُعاني سُكانه من معدل بطالة وصل إلى 45%.
ولعل هدوء الليل في المخيّم يوصل أصوات الراديو المُلازم للسبعيني أبو خليل حسونة إلى كافة نوافذ البيوت المجاورة، وهو يجلس رفقة أخيه في مجلسٍ صغير أمام مدخل منزله، ويعد الرجلان من أواخر من تبقيا من جيل النكبة (1948) بعدما فارقوا معظم رفاقهم الذين شهدوا أحاديث الهجرة عيانًا وكانوا يرافقون جلسات السمر الليلية حيث أحاديث البلاد وقصص المخيم التي لم تكن تنتهي.
يقول حسونة وقد بان الضجر على ملامحه، "المخيم تغير مش زي زمان لا أجواء ولا جمعات وكل الشباب عالجوالات أو بطلعو يغيروا جو برة المخيم، وين الألفة والمحبة، غالبية السكان تبدلوا وبطلنا نعرف وجوه بعض، وصار كل واحد اللهم أسألك نفسي وبطلت في بركة.. كنا نشم ريحة الملوخية من آخر الشارع ونسأل مين طابخ ابعتولنا صحن، واحنا لما نطبخ بنبعتلكم بداله، أو خد طبق بامية وهاتوا صحن ملوخية.. هذا كله انقرض".