السؤال المعتاد: سنأكل اليوم العدس أيضاً؟   

يحتل مساحة على موائد الفقراء  

السؤال المعتاد: سنأكل اليوم العدس أيضاً؟   

في الوقت الذي تُعد فيه العائلات قوائم المأكولات خلال شهر رمضان المُبارك، تقول السيّدة الخمسينيّة أم شادي من مدينة غزة، "لا حاجة لدينا لبرنامج نُحدد فيه وجبات الإفطار، لأن الموجود صنف واحد فقط طوال الشهر هو العدس بكل أشكاله".

وتُضفي السيدة جوًا من الفكاهة وهي تقول أنّها بالطبع لا تُعدّه يوميًا بالشكل ذاته، فهي تُنوّع في طرق طهيه فتارة حساءً وتارةً "فت" وتارةً مع نبات السلق وهكذا حتى نهاية الشهر، كما لا تدّخر جهدًا في إضافة المخللات والمقبلات التي تُضفي عليه نكهة شهيّة.

ويرتبط العدس في ذاكرة الفلسطيني بسرّة اللاجئ الذي هاجر عام 1948، وبدأ يُكابد في رحلة اللجوء داخل المخيمات والاصطفاف في طوابير المعونات التي تقدمها المنظمات الدولية للحصول على المواد التموينية.

شيئًا فشيئًا أصبح العدس مكونًا أساسيًا بجانب البقوليات الأخرى وعلب الفول والسردين ومواد التموين ومختلف المساعدات الغذائية التي يتلقاها اللاجئين من المنظمات الدولية كوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، وبرنامج الأغذية العالمي (WFP) بشكلٍ مستمر وعلى مدار سبعين عامًا من اللجوء.

ومثلت هذه الأكلة انعكاسًا لأحوال العديد من الأسر الفلسطينية الفقيرة خاصّة في قطاع غزة الذي يعاني من الحصار المفروض عليه منذ 17 عامًا، إذ أشارت إحصاءات للأونروا إلى أنّ81,8%  من الأفراد في غزة، 71% بالمئة منهم من لاجئي فلسطين، يعيشون تحت خط الفقر الوطني، فيما يعاني 64% من انعدام الأمن الغذائي. 

ورغم ما يرتبط في الذاكرة تجاه العدس من مآسٍ إلا أنّه يعتبر مكونًا رئيسيًا على المائدة الفلسطينية، فالبعض يُعدّه شوربة كنوع من مقبلات الطعام، والبعض يتناوله كطبقٍ رئيس ومستقل، وغيرها من الطرق التي يبتكرها الفلسطينيون من العدس تمامًا كما تفعل السيدة أم شادي. 

وتقول أم شادي وهي أم لخمسة أبناء، "أنا لا أخجل من وضعي المادي أو أنني وأبنائي نتناول العدس طوال شهر رمضان لكني أتمنى تغير الحال للأفضل". وتضحك ملء القلب وهي تُعلّق، "رمضان جاء هذا العام في فصل الشتاء فالجميع سيطبخ العدس لسنا وحدنا".

إلا أنَّ المرأة تُخفي حُزنًا غلّفته بتلك الضحكة التي كسرتها خشيتها من ارتفاع سعره لزيادة الطلب عليه في شهر رمضان، وهو حال يُشاركها فيه أغلبية السكان في القطاع وفقًا لما أوضحه المحلل الاقتصادي أحمد أبو قمر.

وقال أبو قمر لـ "آخر قصّة"، إنّ الظروف الاقتصادية في غزة كارثية في ظِلّ ارتفاع مؤشر البطالة وانعدام فرص العمل والفقر المدقع، إضافة لعجز الميزان التجاري حيث زيادة الاستيراد وتقلّص نسب التصدير وكذلك ضعف القدرة الشرائية في السوق المحلي.

وشهدت الأراضي الفلسطينية انحدارًا في إنتاج العدس وفقًا لما أشارت إليه الإحصاءات، بأنَّ هناك تناقص مستمر في المساحات والإنتاج، وحسب ما أفادت به وزارة الزراعة، أنه قد زرع في عموم فلسطين عام 2018 فقط نحو 6 آلاف دونم بالعدس، أنتجت 200 طن، وهو رقم قريب من الإنتاج الحالي لهذا المحصول.

يأتي ذلك على الرغم من سمعة الإنتاج المحلي من العدس التي كانت معروفة بالوفرة قديمًا، إذ عرفت الأراضي الفلسطينية قديماً بإنتاج كميات هائلة منه وما زالت توجد الإشارات على ذلك في المجلات العلمية التخصصية؛ لكن تذبذب الأمطار والجفاف الذي أصاب البلاد أثر على كميات الإنتاج الوطنية من الحبوب. 

ويُلقب العدس بلحم الفقراء لفوائده العظيمة ولا تخلو سفرة الأغنياء منه؛ إلا أن السيدة أم شادي عقّبت: "بضحكو علينا بهالأمثال يا ريت معنا نشتري اللحمة ونشتاق للعدس"، مضيفةً أنهم يعتمدون في رمضان على ما تجود به بعض المؤسسات أو الجيران المطلعين على أوضاعهم المادية وهذا ما يُسعد أطفالها.

وبين زحام المتسوقين في شهر رمضان المبارك يقف المواطن أبو علي أمام ثلاجة المجمدات يشتري بعض أجنحة الدجاج والسمك المجمدين وهو ما يستطيع توفيره لعائلته التي تعتاش على مساعدات وزارة التنمية الاجتماعية المقدّرة بـ 700 شيكل (195 دولار) وهي غير ثابتة الموعد؛ إضافة لما يجنيه من أجرٍ متأرجح في عمله بمهنة التبليط، متمنياً الحصول على تصريح للعمل داخل اسرائيل من أجل تحسين أوضاع أسرته المادية.

يقول أبو علي وهو رجلٌ أربعيني وأب لخمسة أطفال، "العدس أساسي على سفرتنا لكن في رمضان أوفر المجمدات لأبنائي فسعرها أقل من الطازجة التي لا أستطيع شراءها، و أحاول التنويع في الأطعمة كما أهتم بنظافة الأكل لكيلا يُصاب أيّ من أبنائي بسوء تغذية كما حصل مع أحدهم قبل عامين".

ولا تقتصر هذه الأحوال الاقتصادية السيئة على الأسر الفقيرة في قطاع غزة، فكما يُشير المختص الاقتصادي أبو قمر أنّها تطال العاملين في المؤسسات بحيث لا يتجاوز متوسط راتبهم (200 دولار) في ظلّ ارتفاع الحدّ الأدنى للأجور إلى ألفي شيكل، وهي لا تكفي لتوفير متطلبات شهر رمضان والواجبات الاجتماعية التي تُشكّل عبئاً إضافياً، حسبما قال. 

وعلى الرغم من أنّ ما يزيد عن 50% من سكان القطاع يعتمد على المساعدات الإغاثية التي تتضاعف كثيرًا في رمضان كل عام؛ إلا أن أبو قمر يؤكد حسب اطلاعه أنّ الدعم المالي الذي يذهب باتجاه المؤسسات الاغاثية قد تراجع خلال العام الأخير؛ الأمر الذي يؤثر سلبًا على الأسر الفقيرة إذ يعتمد بعضها في تغطية جزء من احتياجاتهم على المساعدات.