نساءٌ أبلغن عن العنف وأضعافهن صامتات

تحقيق

نساءٌ أبلغن عن العنف وأضعافهن صامتات

ضَاقت السُبل بالمحامية الشرعية مُشيرة عبد الله (اسم مستعار) ولم تجد فرصةً إلا الهروب من واقعِ الذلّ والضرب والعنف الذي عانته من زوجها، واحتمت في بيتِ (الأمان) وهو بيتٌ حكومي يتبع إلى وزارة التنمية الاجتماعية في قطاع غزة. 

مشيرة (26 عاماً) والتي كانت تقطن في محافظة رفح جنوب قطاع غزة، قالت إنها ما فتئت تدافع عن النساء خلال عملها في سلك المحاماة، غير أنَّ قسوة الحياة وعدم توفر السند، جعلها واحدة من ضحايا العنف الأسري.

وأنهت السيدة التي تعيل طفلاً في ربيعه الثالث، دراسة الشريعة والقانون، وترافعت في عشرات الدعاوى القضائية دفاعًا عن الحقوق، لكنها لم تفلح من الفِكاك من قبضةِ العنف المشترك الذي أصابها من زوجها وشقيقاته وأخيها أيّضًا.

مشيرة هي واحدة من 532 سيدة لجؤوا إلى بيت الأمان عام 2022، وهو أعلى نسبة مقارنة بالسنوات الثلاثة الأخيرة، بفارق 200% تقريباً، وفق إحصاءاتٍ رسمية.

مُعدة التحقيق، التقت بعددٍ من النساء اللواتي تعرضن للعنف غير أنّهن رفضن الحديث عن تجربتهن لأمرين: الأول أنهن لم يفضلن نكأ جراحهن مجدداً واستذكار المواقف المأساوية التي مررن بها، والثاني، أنّهن يخشين سطوة الأهل حال سهل التعرف على حكايتهن، لاسيما وأنّهن يعشنَ في مجتمعٍ معروف بعاداته وتقاليده الصارمة.

على ضوء ذلك، قامت مُعدّة التحقيق بنشر استطلاع للرأي- يراعي السرية الكاملة- لغاية قياس العنف الموجه ضدّ المرأة في قطاع غزة، والتعرّف على مُسببات هذا العنف ودوافعه. 

تبين من خلال الاستطلاع أنّ أغلب اللواتي تعرضن للعنف تجاوزت أعمارهن 25 عاماً، ويتركز هذا العنف في محافظة غزة، بنسبة 60%، تليها محافظة رفح بنسبة 20%، فيما شكلت محافظتي الوسطى والشمال النسبة الأقل وهي 10% لكل منهما، بينما لم تسجل محافظة خانيونس أي اعتداء.

كما أظهر الاستطلاع أنّ نسبة النساء اللواتي تعرضن للعنف توزعت بالتساوي بين المتزوجات والعزباوات بنسبة 50% لكل منهن، وقد كانت أسباب العنف متنوعة بين محاولات فرض السيطرة من قبل الذكور، سواء كان زوج أو أب، وأخرى بدوافع التنمر، وثالثة وصفت بأسبابٍ نفسية وأسريّة كتقويم سلوك أو يأتي زعماً في سياق "التربية".

وبالعودة إلى حكاية مشيرة، فهي تعرضت للعنف الجسدي والنفسي منذ بداية زواجها، بفعل تحريض شقيقات زوجها كما قالت، واستمرت على هذا النحو لعدّة أشهر، إلى أن اضطرت للبحث عن مأوًى آمن.

سبق ذلك، لجوء مشيرة إلى بيت عمها الذي رفض احتواءها بداعي أنّ لديه أبناء ذكور داخل المسكن يصعب إقامتها بينهم، ثم لجأت إلى بيتِ شقيقها الذي قام بتعنيفها إذ عرضها للحبس 15 يوماً بهدف إجبارها على العودة إلى بيت زوجها، وقالت في وصف معاملته لها، "أشدّ أنواع العنف رأيت عنده، المأساة كلها، كان يضرب رأسي في الجدار".

واستمر الأمر على ذلك النحو مع مشيرة لمدة خمسة شهور قضتها في بيت أخيها حتى أصيبت بانهيارٍ عصبي وفقدت رغبتها في الحياة، وقد دفعها ذلك للتفكير بالانتحار، إلى أن لجأت إلى بيت الأمان وهناك تلّقت إفادة بحصول الانفصال، غير أنّها لم تحصل على حقها القانوني تجاه مُعنفيها.

وفي الغالب يستقبل بيت الأمان النساء اللواتي تعرضنّ للعنف بمختلف أشكاله، باستثناء اللواتي يتعاطين ويُدمِنّ المخدرات، كما قالت سهاد قنيطة مديرة البيت.  

وقالت قنيطة في سياق حديثها لـ"آخر قصة" إنَّ العنف ضدّ النساء ناتج عن البيئة غير المستقرة في قطاع غزة وإن نسبته كبيرة إلى حدٍ ما، مبينةً أن مؤسسة بيت الأمان تقدم خدماتها لأولئك النساء اللواتي يتعرضن للعنف، وتشمل خدمة الايواء والعلاج والتعليم، وغيرها.  

وتختلف ظروف كل حالة مقيمة داخل البيت بحسب قنيطة، فمهن من يُقيمن على خلفية اعتداءات جنسية وهن أقل من سنّ 18 عاماً، واخربات على خلافات أسرية، وفئة ثالثة على إثر خلافات زوجية، مشيرة في الوقت نفسه إلى أنّ البيت يستقبل حالات من مختلف الفئات العمرية تبدأ من 14 عاماً وحتى 60 عاماً.

غير أنّ البيت لا يستقبل مدمنات المخدرات أو خريجات السجون أو ذوات إعاقة ذهنية"، وفقًا لقنيطة التي قالت إنهم يقدمون خدمات الرعاية القانونية والنفسية والحماية والايواء، فضلاً عن خدمات الترفيه والتعليم للمعنفات أو الناجيات من العنف.

وبحسب الاستطلاع الذي أجريناه، فقد احتل "الأخ" الحيز الأكبر في نسب الشخص المعنف من بين خمسة معنفين، حيث بلغت نسبته 33.3%، بينما كانت نسبة الأب والأبن والزوج وغير ذلك بنسبة 22.2% لكل منهم.

وفي الإجابة على سؤال، هل سبق وأن قادكِ العنف للتفكير في الانتحار، فإنّ 62% من المُستَطلعة آرائهن لم يُفكرن بذلك، فيما أن 25% منهن راودتهن الفكرة. وغالبيتهن لم يدفعهن العنف للحصول على دعم نفسي واجتماعي واعتمدن على أنفسهن في مواجهته.

وجميع المُستَطلعة آرائهن أكّدن أنّ الشخص المتسبب في العنف لم يسبق أن جرى محاسبته، فيما 83% منهن لم تساهم عائلاتهن بوضعِ حدٍّ للعنف الذي يتعرضن له من قِبل الزوج، بينما 16% منهن فقط ساعدتهن أسرهن.

وتبين أنَّ 66% منهن لم يطلبن المساعدة من أحد، فيما 44% ما زلن بحاجة للمساعدة الآن، لكنهن لم يُخبرن أحدٍ لدواعٍ مختلفة منها أنّه لا يتوفر سند، وأخرى بدواعي الخوف على السمعة أو ما أسموه الخوف من الـ"الفضائح"، وفريق ثالث بسبب الوضع الاجتماعي، ورابع بدواعي عدم توفر حل.

تُفسر المحامية والناشطة النسوية رقية أبو منديل، عدم طلب غالبية المعنفات المساعدة من أحد، بأنّ هناك مخاوف مُلقاة على المرأة سواء من الزوج أو الأب أو الأبن، لذلك تُفضِل التكتم على العنف الذي تتعرض له داخل الأسرة.

وفي الوقت الذي تفضل فيه الغالبية من النساء الصمت حيال العنف الذي يتعرضن له، قررت سماح خالد (اسم مستعار)، ابنة السابعة عشر ربيعاً أن تطلب المساعدة من بيت الأمان.  

خطوةٌ قد تبدو صادمةً في مجتمع غالباً ما تُحلّ فيه المشكلات الأسرية على يدِ رجال العشائر بديلاً عن يدِ القضاة، لكن على أيّة حالِ فعلتها سماح وبكلِ جُرأة، بعدما ازداد شكل العنف الذي واجهته على يدِّ أبيها.

وبدأت القصة كما تروي الفتاة التي انفصل والديها منذ نحو 15 عاماً، عندما كانت زوجة الأب تُعنّفها وأختها وتحرّض أبيها على ذات الفعل أيضاً. "كلما اشتكيت إليه من تصرفات زوجته كان يعنفني بدلاً من التخفيف عني، وحرمني رؤية أمي التي ظلّت دون زواج أملاً في استردادنا إلى حضانتها، إلى أن عجزت عن فعلِ شيء وتزوجت"، قالت سماح.

تكمل الفتاة قصتها والدمع متجمد في عينيها: "بابا كان يعاملنا معاملة سيئة هو وزوجته وكان يضربنا بشكل مش طبيعي، يعذبنا تعذيب سجون وتعليق في النجف وحرق بالسجائر وأدوات حادّة وما كان يضربنا ضرب عادي (..) كان يربط ايدي ورجلي بحبل ويطفي السجائر في جسمي وفي راسي أنا وأختي".

وعودةً لاستطلاع الرأي الذي يقيس العنف الموجه ضدّ المرأة في غزة، فقد بلغت نسبة الجسدي واللفظي منه 44% لكل نوع منهما، بينما جاء الاعتداء الجنسي بنسبة 11%. وتعددت أشكال العنف الجسدي بين اعتداءٍ باليد بنسبة 37%، أمّا الاعتداء بآلات حادّة جاء بنسبة 12.5%، وبقيّة الأشكال تحت مسمى (غير ذلك) شكّلت نسبة 50%.

ولولا تدخل المرشدة النفسية في المدرسة التي كانت تتلقى فيها الفتاة سماح تعليمها، على إثرِ ملاحظاتها لأثار التعنيف والتعذيب على جسدها وشقيقتها، لظلّت تعاني الأمَريّن داخل أروقة الأسرة.

وقالت سماح: "حاولت مرشدة المدرسة النفسية مساعدتنا وحثّت أبي في أكثر من مرة على التوقف عن تعنيفنا غير أنّه لم يكترث لذلك، حتى اقترحت المرشدة إبلاغ بيت الأمان بما يجري وبالفعل كان قرارًا صائبًا اتخذناه وها نحن الآن نحظى برعاية كبيرة داخل البيت، وبالإمكان رؤية أمي التي حُرِمنا من رؤيتها لوقتٍ طويل".

تشير مديرة بيت الأمان "سهاد"، إلى أنّ مدة الإقامة داخل البيت غير مشروطة، "هناك حالات تلجأ للإقامة فيه ليوم أو أسبوع أو عامٍ كامل، وهناك حالات يُمكن أن تستمر مدة إقامتها لفترة طويلة لأن الأمر مرهون بحلّ المشكلة التي تعاني منها، فإذا ما بقيت على حالها، لن يكن هناك إمكانية لمغادرة الحالة البيت"، كما قالت.

وأكّدت أن أولى الخطوات التي اتخذتها في التعامل مع الحالات، وخاصّة السيدات اللواتي يُعتدى عليهن جسدياً، هو التأكد من سلامتها بعد إجراء الفحص الطبي والحصول على العلاج اللازم، ومن ثم الحصول على الإفادة واستيضاح المشكلة التي تواجهها.

تشير المعطيات النظرية إلى زيادة في نسبة النساء المُبلِّغات عن العنف في قطاع غزة، ويفسر محمد نصار مدير دائرة الدارسات والإحصاءات في وزارة التنمية الاجتماعية، هذه الزيادة بأنها عائدة إلى ارتفاع درجة الوعي لدى النساء فيما يتعلّق بحمايتهم من العنف.

وقال نصار  في حديثه لـ "آخر قصّة"، "ارتفاع عدد النساء اللواتي لجأن إلى بيت الأمان، عائد إلى الحملات المنتشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تتحدث عن أهمية هذا البيت، فكان لها دور في لجوء النساء إليه وبالتالي زيادة أعدادهن".

وفي تفسيره للتباين الحاصل بفارق 200% بين النساء اللواتي طلبن المساعدة خلال العام الماضي 2022، عن العام 2020، قال إنه عائد إلى أن النسبة كانت أقل قبل ثلاث سنوات نتيجة ظروف جائحة كورونا والتي حدّت من الحركة داخل المجتمع بفعل الإغلاق وعدم القدرة على الوصول إلى بيت الأمان.

ولفت إلى أنّ أعداد النساء اللواتي تطلب المساعدة من الوزارة عبر البيت تتراوح بين (20-25) سيدة شهرياً، "وهي نسبة متغيرة حسب التدخلات من المؤسسات الحقوقية ورجال الإصلاح والشرطة المجتمعية لحلّ القضايا والإشكاليات سعياً وراء عودة النساء إلى بيوتهن"، كما قال.

إزاء هذا الواقع، كان لابد من معرفة مدى صون القانون الفلسطيني لحقوق المرأة وحمايتها من العنف، وهل بالضرورة أن تبلغ المرأة المعنفة الجهات الرسمية (جهاز الشرطة) عما تتعرض له حتى يجري حمايتها؟.

تجيب المحامية والناشطة النسوية رقية أبو منديل: "عند الحديث عن القوانين والتشريعات في فلسطين نجد أنفسنا أمام مجموعة من القوانين المتناقضة وغير المنسجمة مع بعضها البعض، وغير متوافقة حتى مع واقع المرأة الفلسطينية ولا تتلاءم مع الشريعة الدولية لحقوق الإنسان".

وعلى الرغم من هذا التناقض في القوانين، وفقًا لأبو منديل التي قالت إن تلك القوانين وفرت قدرًا كافيًا من الحماية بما يتعلق بالمرأة، لكنها أكدت أنّهم يطمحون بالمزيد وبإقرار قانون حماية المرأة من العنف لما له من دور في حماية المرأة وحماية باقي أفراد الاسرة كذلك.

وأشارت المحامية إلى أنه جرى اصدار رزمة من التعميمات القضائية مؤخراً، قالت إنها "تصب في صالح النساء، لكنها أثارت جدلاً كبيرًا نتيجة عدم وعي الجمهور بأهمية هذه التعميمات".

وعلى الرغم من أهمية القانون في حماية المرأة، لكن يبدو أنَّ هناك أمران يحكمان قواعد التعامل في ملف العنف ضدّ المرأة من قبل جهاز الشرطة في قطاع غزة، ألا وهما "العنف البليغ، وتقديم الشكوى".

على ضَوء ذلك، قالت العقيد ناريمين عدوان مدير إدارة الشرطة النسائية في قطاع غزة، "نحن نقوم بمتابعة القضية وفقاً لرغبة المرأة المُعنَفة، فإذا كان العنف الواقع عليها بليغًا وهناك أذى كبير، فإننا نسلك الإجراءات القانونية كاملة ونقوم بالتحويل إلى النيابة العامة".

وماذا عن اللواتي لم يُقدِمن شكاوى؟، قالت عدوان، "هناك نساء لجئن إلينا ورفضن تقديم شكاوى رسمية بحقّ معنفيهن واكتفين بالحديث عن مشكلاتهن، وهُنّ في هذه الحالة يحتجن معاملة خاصّة ودعمٍ نفسي فقط".

ووفقًا لعدوان فقد كانت النساء المعنفات في السابق تتحسس من فكرة التقدم بالشكوى عبر جهاز الشرطة، فربما لم يكن لديهن ثقة في جهاز الشرطة النسائية، وهو ما بررت به الأسبقية الحاصلة لمؤسسات المجتمع المحلي في هذا الدور التي كانت أكثر ثقة بالنسبة للمرأة، في استقبال شكواها والاستماع لها، كما قالت.

وأوضحت مدير الشرطة النسائية أنّ النساء مازلن يُواجهن مشكلات تتعلق بـ"الابتزاز الالكتروني"، زاد معدّلها بنسبة 200% خلال العام الماضي 2022، عن العام الذي سبقه، حسبما أفادت، وذلك في الوقت الذي تراجعت فيه نسبة الإيذاء الجسدي البليغ بحقّ النساء.

إذا ما اعتبرنا فعلاً أنَّ غالبية المعنفات في مجتمع غزة لم يطلبن المساعدة من أحد خشيةً من المخاطر التي من المحتمل أن  يتعرضن لها إذا ما أخبرن عن العنف المُوجه إليهن، فذلك يُعزز افتراضاً أنَّ المعنفات اللواتي ما زلن يُعانين بصمتٍ خلف ستار الخوف والعادات والتقاليد، هنَّ أكثر من اللواتي يُخبرن عنه.