يركبُ عبد الله خليل (63 عامًا) الموج بحسكتهِ منذ ما يُقارب خمسين عامًا قضاها في عرضِ البحر، يعرف فيها أنواع أسماكه وأشكالها كما يعرف أبنائه التسعة الذين يعمل بعضهم معه في مهنةِ الصيّد، فيما يقتات جميعهم من خيرِ هذا المركب الصغير، إذ لا يرى خليل غير البحر وجهةً لطلب الرزق.
غير أنَّ الرجل الستيني الذي قد تعرّض لإصابةٍ في ساقه أودت بمستقبل استمراره في المهنة إلى المجهول، يقول وهو يجلس على كرسي ويجمع بيديه المجهدتين الأسماك التي التقطها شِباك أبنائه، "كانت الساعة نحو السادسة صباحًا عندما ركبنا المركب وذهبنا للصيّد في مارس الماضي ولم نكن تجاوزنا مساحة الصيد بعد".
يردف خليل في حديثٍ لـ "آخر قصّة"، "لم تمر بضعة دقائق على تجديفنا حتى حاوطتنا ثلاثة زوارق حربية إسرائيلية وباشروا بإطلاق الأعيرة الناريّة نحونا فورًا فأصابوا ساقي، وأجريت بعدها ثلاثة عمليات جراحية حتى تمكنت من معاودة المشي قليلًا مع وجود بلاتين العظام لكن الأطباء نصحوني بعدم مزاولة المهنة من جديد".
وتوزعت حوادث إطلاق النار التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي صوبَ مراكب الصيادين في بحر قطاع غزة، على المحافظات الخمس دون استثناء، وفقاً لمركز الميزان لحقوق الإنسان، فكان لمحافظة شمال غزة النصيب الأكبر من عدد الحوادث والإصابات إذ تعرضت لـ (251) حادثة نتج عنها عشرة إصابات، تلتها محافظة رفح بعدد حوادث بلغ (142) ونتج عنه سبعة إصابات.
بالإضافة إلى (46) حادثة إطلاق نار شنَّتها الزوارق الحربية الإسرائيلية تجاه الصيادين في بحرِ محافظة خانيونس لم تُسفر عن إصابات، بينما تعرضَ بحر مدينة غزة إلى (32) حادثة نتج عنها ثلاثة إصابات، وأخيرًا تعرضت مدينة البلح وسط قطاع غزة إلى (3) حوادث إطلاق نار نحو الصيادين نتجت عنها ثلاثة إصابات.
ورغم أنّ الصياد خليل كان يُجدّف بغرض الصيّد في المساحة المسموح بها وفق ما يشترطه الاحتلال الإسرائيلي إلا أنّ ذلك لم يُنجيه من الإصابة، إذ يُحدد الاحتلال ما بين 6-12 ميلاً أمام الصيادين داخل بحر غزة، ويجري تقلصيها إلى 3 أميال؛ مما يمنع العديد من المراكب من مزاولة عملها في خرقٍ لاتفاقية أوسلوا (1993م) التي نظمّت الوضع القانوني لشاطئ القطاع وأتاحت 20 ميلًا بحريًّا (قرابة 37 كم) مساحةً للصيد الفلسطيني.
وتتعدد الانتهاكات الإسرائيلية، وفقًا للميزان، والتي قُدّرت بـ (474 انتهاكًا) بحقّ الصيادين في بحر قطاع غزة، ما بين عمليات إطلاق نار قُدِّرت بـ (474) نتج عنها (23 إصابة)، بالإضافة إلى عمليات اعتقال أودت إلى اعتقال (64 شخصًا)، وأيَضًا حالات تخريب لأدوات الصيد وصلت إلى (10 حالات).
ورغم أنّ قطاع غزة ينفردُ بساحلٍ يُراوحه طولًا ويصل إلى نحوِ 40 كيلو مترًا من الشمالِ إلى الجنوب، إلا أنَّ بحر هذا القطاع محاصرٌ مثله بشروطٍ وتقييدات فرضها الاحتلال الإسرائيلي، جميعها حدت من ثروته السمكيّة وحكمت الخِناق على جياد صياديه، فلا مساحة صيّد كافية أو آمنة ولا حرية إبحار متاحة ولا مأمن في عرض البحر.
ويُشكّل قطاع الصيد في غزة من أهمية كبيرة بين القطاعات الاقتصادية الأخرى، إذ يُشارك في دعم الناتج المحلي الإجمالي مع قطاع الزراعة والحراجة بنسبة )7%) فيما تتنوع الأسماك التي يجود بها البحر على الصيادين في مواعيد مختلفة من العام تبعًا لسلالة كلٍ منها.
وتتعدد السلالات بما يزيد عن 12 صنفاً، وفي الكثير من الاحيان يخاطر الصيادون بحياتهم في سبيل اصطياد هذه الأصناف التي تشكل مصدر دخلهم الوحيد. وبلغ حجم الانتهاكات الإسرائيلية المُمارَسة بحق الصياديين بحسبِ الميزان، (474 انتهاكًا) خلال العام المنصرم 2022؛ الأمر الذي أثر سلبًا على قطاع الصيد والنشاط الاقتصادي عموماً.
كان أهم ما نتجَ عن هذه الانتهاكات في قطاع الصيّد هو تراجعٌ واضح لأعدادِ العاملين في الصيد والمهن المرتبطة به كصناعة المراكب وصيانتها، صيانة المعدّات والشِباك، وتجارة الأسماك وما يرتبط بها من عملياتِ نقل وغيرها، إذ تقلّص خلال 25 عامًا للنصف تقريبًا من 10 آلاف عامل في العام 1997 إلى 5606 عامل فقط في العام 2022.
لم تجرِ الرياح دومًا كما تشاء سفن صيادي غزة، فإذا نجوا من ضنك العيش بفعل الحصار المفروض على قطاع غزة منذ ما يزيد عن 16 عامًا، مَن يُنجيهم من مطاردات الاحتلال وما تُحدّقه من أخطارٍ حولهم وخيارات أحلاها مرّ فإما مصادرة الشِباك أو الاعتقال أو الإصابة أو الموت.
أحمد أبو ريالة (31 عامًا) يعمل في الصيّد منذ ما يزيد عن نصفِ عمره بصحبة والده واخوانه ولم يسلم من الاعتقال على أيدِ جنود الاحتلال في عرضِ البحر على حينِ غرّة فيما كان يُبحر بصحبة أخيه ذات ليلة من مساء أبريل الماضي.
يقول أبو ريالة، "اتجهت نحونا الزوارق الإسرائيلية وأطلق الجنود النار فأصبت بعيارٍ ناري مطاطي وطلبوا منّي القفز للماء ومنها سحبوني باتجاه الزورق وكبلوا يديّ واعتدوا عليّ بالضرب المبرح ثم عصبوا عينيّ وبقيت على ظهر الزورق إلى ساعات الصباح ثم نقلوني إلى ميناء أسدود ومنه اعتقلوني وصادروا المركب بكل معدّاته".
وبشكلٍ يومي ترصد الجهات المختصة حوادث اعتقالات داخل البحر لا تخلوا محافظةٍ واحدة منها، إذ حصد بحر مدينة رفح نصيب الأسد من الحوادث خلال عام 2022 التي وصلت إلى ثمانية وأعداد المعتقلين التي بلغت 32 معتقل منهم 4 أطفال، فيما بلغت الحوادث في محافظة الشمال خمسة شملت 20 معتقل منهم ثلاثة أطفال.
أما في مدينة غزة فقد وثّقت المراكز الحقوقية حادثتي اعتقال ضمّت 6 معتقلين من بينهم طفل، وكذلك اعتقلت سلطات الاحتلال في بحر مدينة دير البلح أربعة معتقلين في حادثٍ واحد، كما اعتقلت اثنين آخرين من عُمق بحر مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة في حادثة واحدة.
وعن عمله وما يجنيه لقاء ما فيه من مكابدة وشقاء يقول أبو ريالة، "لقمة مُغمّسة بالدم، يحاصرنا الموت في كل خطوة ومع ذلك لا نجني منها ربح ولا ندخر شيء، وإذا لم نذهب يوم للصيد لا نجِد ما يسدّ رمقنا ورمق أطفالنا، فهل يكفي متوسط العشرة شواكل يوميًا لمصروف أسرة من خمسة أفراد، هي بالكاد توفر لنا الاحتياجات الأساسية".
يصبرُ الرجل على ضيق العيش ومخاطر المهنة لكنه يضرب كفيه ببعضهما وهو يُخبر عما لاقاه بعد مصادرة مركبه التي هي رأس ماله، يقول، "بعد اعتقالي صادر الاحتلال اللنش وعندما أطلق سراحي وطالبت فيه لم أجد ردًا، فاضطررت لاستئجار مركب ووضع أعباءه على كاهلي ومراكمة الديون فلم يكن أمامي خيار آخر".
ما عايشه أبو ريالة يُلاقيه الصيادين بشكلٍ مستمر داخل بحر قطاع غزة على مستوى كافة محافظاته، إذ وصلت أعداد حوادث الاستيلاء على قوارب أو معدات الصيد خلال عام 2022 وحده إلى 7 حوادث في محافظة رفح وحادثتي تخريب، بينما في محافظة شمال غزة بلغت حوادث الاستيلاء خمسة مقابل خمسة أخرى تخريب.
أما مدينة غزة فقد تعرض الصيادين فيها لحادثتي استيلاء وأخرى مثلها تخريب لقوارب أو معدات الصيد، ولم تنجو محافظات وسط غزة "دير البلح" كذلك إذ تعرضت لحادثة استيلاء واحدة، وكذلك خانيونس التي تعرّضت لحادثة تخريب مقابل حادثة استيلاء أيضًا.
تأتي هذه الممارسات الإسرائيلية والانتهاكات المتعددة متمثلة بالاستيلاء على المراكب أو تخريبها على الرغم مما يحفظه القانون الدولي الإنساني واتفاقيات حقوق الإنسان، لاسيما اتفاقية جنيف الرابعة الخاصّة بحماية المدنيين وقت الحرب والنزاعات المسلحة، وفقًا للخبير القانوني زاهر السقا.
وأشار السقا إلى أنّ القانون يضمن آليات محددة لاسترجاع مراكب الصيد والشِباك والمعدّات المستولى عليها من قبل سلاح البحرية الإسرائيلي، كما يحفظ إمكانية الحصول على تعويضات تلائم حجم الضرر الذي يتعرض له الصيادين خلال ممارسة عملهم.