تقف الطالبة آية كمال (اسم مستعار) على باب بيتها من الداخل الواقع في مدينةِ غزة في تمام الساعة السادسة صباحاً، تنتظر حافلة المدرسة، وترصدُ بحذرٍ قبل خروجها حركة الكلاب الضالة التي تتجول في شارعهم يومياً.
وتقول آية ذات الخمسة عشرة عاماً اعتدت على صوت نباح الكلاب المُخيف طوال الليل، لكنني لم أعد أحتمل اقترابهم من البيت يوميًا وطوال النهار والليل بأعدادٍ كبيرة تتجاوز العشرة كلاب في نفس الزقاق الذي يقع فيه بيتنا.
تضيف الفتاة في حديثها لـ "آخر قصّة": "لا أذكر موقفاً أصعب مما حدث معي يوم عدت من بيت عمومتي إلى المنزل ركضاً هرباً من كلبٍ يُلاحقني. كان نباحه يخترق أذني وهو يهاجم حقيبتي بأنيابه ويشدّها بقوة حتى ظننتُ أنّي لن أنجو".
وحاول والد آية بعد تلك الحادثة التي مرّت بدون إصابات التواصل مع بلدية غزة عدّة مرات للتشكي على ظاهرة الكلاب الضالة التي تستوطن منطقة سكنه وتهدد أطفاله لكنّه لم يتلقَ ردًا، كما قال.
على بعدِ أمتارٍ من منزل آية، يقف الخمسيني أبو أحمد على باب محلّه البسيط المتخصص في بيع الحلويات وهو يشيح بيده إلى قطيع الكلاب الضالة التي تنهش أكياس تحتوي على بقايا الطعام بجوار نفاية على مقربة من محله.
هذا الرجل الذي يُعيل سبعة أبناء من عرقِ جبينه اعتمادا على بيع الحلويات التي هي مصدر رزقه الوحيد، أصبح اليوم مُهددًا بإغلاق المحل بعدما ذهب عنه الكثير من زبائنه بسببِ الذعر الذي تسببه الكلاب، و تخوفهم من تأثير ذلك على نظافة المحل، حسبما قال.
ولم يلوم العمّ أبو أحمد الزبائن على ذلك لقوله "بالطبع سيخشون على صحتهم وصحة أبنائهم ولو كنت مكانهم لفعلت ذلك"، فيما يجني الرجل من محله ربحًا يُقدّر ببضعة شواكل يوميًا لا تكفي لسدادّ ديون متراكمة على كاهله.
ويعكس بائع الكعك والحلويّات في حاله صورةً للوضع الاقتصادي المتردي في قطاع غزة، إذ توقع تقرير مشترك صادر عن سلطة النقد الفلسطينية والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، استمرار تباطؤ نمو النشاط الاقتصادي في العام 2023 للعام الثاني على التوالي.
وكأننا نجد أن هناك ارتباطاً بين الفقر وانتشار الكلاب الضالة، فإذا لم يكن بمقدور الكثير من السكان تقديم الطعام لتلك الكلاب، فإن هذا يفتح شهية الأخيرة على الانتشار بحثاً عن الطعام بين الحارات والأزقة وحتى بين مفترقات الطرق الرئيسية.
وتضج العديد من الأحياء السكنية بشكاوى انزعاج السكان ولومهم الجهات المسؤولة عن مكافحة الكلاب الضالة التي تُسبِب الكثير من المشكلات الصحية والحضرية وتبث الخوف في نفوس الأطفال.
ونتيجةً لما تُسببه هذه الكلاب من مشكلات، يُبيح قانون داء الكلب رقم 39 لسنة 1934، لجهات الاختصاص إهلاك الحيوانات الضالة، إذ نصَّ في مادته العاشرة على ضرورة ربط سكان أيّ منطقة يعلن فيها عن المكافحة - كلابهم في عقاراتهم؛ لأنه سيهلك كل كلب غير مربوط أو شارد أو ضال أو لا صاحب له أو غير مرخص به.
ولأجلِ المساهمة في القضاء على ظاهرة الكلاب الضالة أنشأ سعيد العِر جمعية سلالة وهي أول جمعية للرفق بالحيوان في غزة، ويقول، "التحقت في دورة تدريبية بروسيا لترويض الكلاب وبعد عودتي فكرت بجمع الكلاب الضالة في مكان يقدم الرعاية والتدريب لهم ويحمي المواطنين من أيّ ضرر قد يُلحق بهم، فكانت جميعة سلالة".
أصبحت هذه الجمعية التي أقامها العِر عام 2019 في المغراقة جنوبي محافظة غزة تضمّ اليوم أكثر من 400 كلبًا ضالاً، وقد استوحى الرجل فكرة الجمعية من إهمال الجهات المعنيّة في تأمين مأوى للكلاب الضالة، وفق قوله، مشيرًا إلى أنّ وجود هذه الكلاب يُجبر بعض المواطنين على قتلها بطريقةٍ وحشيّة.
وتستقبل "سلالة" نحو ثلاثة كلاب ضالة أسبوعيًّا إلا أنّ العِر يقول لـ "آخر قصّة"، "نستجيب لشكاوى المواطنين في جمع الكلاب الضالة، لكننا لا نستطيع السيطرة على الأعداد المهولة منها والمتوزعة على مناطق غزة بمفردنا دون تدخل الجهات المختصة التي تكون مُجهزة بالإمكانيات والخبرة".
وأعاد الرجل السبب الرئيس في انتشار هذه الكلاب بين الأحياء السكنية إلى مجمعات النفايات التي لا يتم تنظيفها ليلًا وتُترك حتى ساعات الصباح، إذ تأتي الكلاب للمناطق غير النظيفة و المأهولة بالسكان، وفق قوله، فيما حمّل البلديات المسؤولية عن ذلك.
وفي ظلَّ صمت بلدية غزة وغياب أرقام واضحة لديها عن عدد الكلاب الضالة وكمّ الشكاوى التي تَرِد من المواطنين، وفقًا لمدير عام الصحة والبيئة فيها عبد الرحيم أبو القمبز، الذي بررَ فقدان سيطرتهم على تنامي تلك الظاهرة باستخدام عدّة طرق للتخلص من الكلاب وجميعها باءت بالفشل.
كان أول تلك المحاولات استخدام الطعوم السامة التي لم تثبت نجاحها في القضاء على الكلاب الضالة وإنما تسببت بإمراضهم فقط بسبب منع الاحتلال دخول المواد عالية السمية، ثم استخدام الخرطوش لفترة محدودة نتيجة تلقي شكاوى من المواطنين على استخدامه، وبذلك توقفت محاولات القضاء على ظاهرة الكلاب الضالة قبل أن تُحقق أيّة فعالية.
وعن آخر محاولات البلدية يقول أبو القمبز لـ "آخر قصّة"، "إننا نسعى الآن لطلب العون من الدول الصديقة للتخلص من الكلاب الضالة والاستفادة من تجاربهم وإمكانياتهم بالتعامل مع تلك الأزمة، كما تدعو المواطنين لعدم إخراج نفاياتهم بالليل للحدّ من انتشار الكلاب السائبة عليها".
وفي الوقت الذي يُحمِّل فيه أبو القمبز مسؤولية التخلص من الكلاب الضالة عن طريق القتل للجهات الأمنية متمثلة في "الشرطة" باعتبارها الجهة المخولة بحمل السلاح واستخدامه بطريقة مشروعة، أظهرت نتائج دراسة شاملة أعدّتها الجمعية الفلسطينية للرفق بالحيوان، أنّ قتل الكلاب الضالة هو الطريق الأسوأ للتخلّص منهم.
ووضعت حلولاً وبدائل للتخلص من الكلاب الضالة ضمن استراتيجية قائمة على دراسات أجرتها، إذ أوضحت أن التخلص منهم عن طريق القتل لن يمنع انتشارها وتكاثرها، بينما يكمن الحل الأنسب في سلك النهج المدروس لمنع تكاثر تلك الكلاب وتشمل تلك العملية اصطيادها، ومن ثم إجراء عملية التعقيم والتطعيم وأخيرًا توفير مأوً لهم.