بخفة تحرك المهندسة سمر الغول أصابعها وتعقد الحبل الأبيض فتعطيه شكلا مختلفاً عندما تتراص العُقد واحدة تلو الأخرى لتظهر اللوحة النهائية للوحة بيضاء من الخيوط، يطلح عليها في قطاع غزة "مكرميات" (معلقات مصنوعة من الحبال).
وتزدان جدران معمل سمر الذي افتتحه قبل عام، بهذه المعلقات والتي تعددت أشكالها، غير أن أغلبها كان يرمز إلى أهلّة شهر رمضان الذي يطرق الأبواب بعد أيام.
ولا يُعد هذا العمل الفني اليدوي غريبًا على سمر التي تخرجت من قسم الديكور والتصميم الداخلي بجامعة الأقصى وتعمل محاضرة فيه إلى جانب تنفيذها العديد من مشاريع الديكور داخل وخارج القطاع، متجاوزة حدود الحصار المفروض منذ أكثر من 16 عاماً، والذي يعيق تشغيل أكثر من 253 ألفاً من العاطلين عن العمل.
وحول ميولها نحو عالم الفنون تقول سمر (36 عام) لـ "آخر قصة"، "بدأت القصة عندما كنت طفلة أشغل وقت فراغي في الأعمال الفنيّة فلم أدع فنًّا إلا وتعلّمته وشيئًا فشيئًا تطورت مهاراتي وأصبح الفن مُقربًا لروحي، ومنذ ذلك الوقت أُصرّ على تقديم الهدايا لأصدقائي من صنع يدي لما يُضفي ذلك لمسة خاصّة ترفع من قيمة العمل اليدوي".
أما عن توجهها لفنّ المكرمية وهو طريقة نَظْم الخيوط وحبكها وترتيبها بإحكام مما يُعطي شكل فني أنيق ذو مظهر جمالي، تقول، "خلال دراستي الماجستير في دولة مصر عام 2016، كنت أتجول في سوق الفسطاط المخصص للحرف اليدوية فلفت انتباهي مُعلّقات المكرمية التي لم أكن أعرفها من قبل".
تُردف الغول، "أخبروني الباعة أنّ فن صناعة المكرميات فنٌّ عربي قديم يُنتجه الغرب وتستهلكه العديد من الدول العربية فأخذني الفضول للبحث والتوسع حوله عبر يوتيوب وعزّ عليّ أنّه عربي الأصل ولا يوجد معلومات عنه إلا في المواقع الأجنبية فبحثت كثيرًا وتعلمت وأردت أن أكون واحدة ممن ينتجونه فنحن أحقّ به".
وبالفعل تعلّمت سمر هذا الفنّ وبدأت تنتجه من داخل غرفة منزلها وبقيت لسنوات تقضي الساعات بين الخيوط والألوان تفرُ من ضغوطات الحياة خاصّة في ظلّ ظروف قطاع غزة السياسية الصعبة وتكرار الاعتداءات الإسرائيلية.
تقول السيدة في حديثها لـ "آخر قصة"، "الخيط عبارة عن مادة حرة تعطيني شعور بالراحة والانسيابية خلال عملي به وقد ساعدني الأمر على الحفاظ على نفسية سليمة وذهن صافي فكل عقدة أربطها بحبال المكرمية تخلصني من ضغط نفسي وكل خط أرسمه على اللوحات أرسم به سعادة على وجهي".
ورغم شغفها بفنّ المكرمية إلا أنّ الغول تؤكد أنّه عمل يحتاج للوقت والدقة والجهد فيُمكن أن تحتاج قطعة واحدة عدة أيام لإنجازها؛ لذلك غالباً ما تكون القطع اليدوية الصنع مرتفعة الثمن فهي لا تقاس بموادها الخام بل بجهد صاحبها ووقته وإبداعه.
وبعدما أتقنت هذا الفن أصبحت سمر تُعلّمه لغيرها فقد استقبلت في بيتها بعض السيدات ونقلت لهم خبرتها في صناعة المكرميات، تُعقب، "كان شعور السعادة الذي ينتابني كلما ساعدت سيدة بالاعتماد على نفسها وفتح مصدر رزق خاص فيها لا يوصف ولكن الأمر لم يكن سهلاً خاصّة في ظلّ طبيعة مجتمع غزة المنغلق وعدم تقبل الجميع الالتحاق بدورات في المنزل".
وكانت سمر الغول في البداية قد واجهت صعوبة في توفر الأدوات اللازمة لصناعة المكرميات في غزة من خيوط وحلقات خشبية فحاولت استخدام الأنسب من المتاح إلى أن سافرت تركيا عام 2020 وبدأت تشحن كل ما يلزمها من مواد إلى القطاع.
وبعد تفكير ودعم من زوجها قررت افتتاح استديو "حرفة" الذي طليت بعض جدرانه باللون الأصفر "الخردلي" الذي يوحي بالحيوية والسرور، وتشعر سمر في الاستديو الخاص بها بالسعادة فهو بيتها الثاني، كما تقول.
وقد أصبح الاستديو أو المعمل كما تفضل أن تنعته، منذ افتتحته مزارًا للسيدات يبتعن منه ويتعلمن صناعته فتساعدهن على فتح مشاريعهن الخاصة بعد انتشار هذا الفن في غزة ورغبة كثير من ربات البيوت بتزيين منازلهن به.
تقول سمر وقد أغدقت على السيدات إكرامًا، "إنّ أكثر ما يبث السعادة لروحي هو شعوري بالإنجاز وفتح بيوت بعض السيدات اللاتي يعرضن منتجاتهن لدي للبيع بعدما تعلمن الفن"، إضافة لتشغيل بعض المساعدات لها في حال الحاجة لذلك.
ولا تكتفِ السيدة بتعليمهن على القطع المعروضة لديها بل تساعدهن على تصميم قطع خاصة تناسب منازلهن إذ تدمج هذا الفنّ مع تخصصها الديكور الداخلي وهو ما تحاول تطبيقه على أحد المطاعم الذي يفتتح قريباً في غزة تقول: "حاولت إدخال المكرميات في تفاصيل هذا المطعم كتجربة مختلفة لم تطبق في غزة من قبل".
وتطمح الغول بإنشاء استديو يجمع كل الحرفيين كمكان تعليمي ومعرض دائم للمنتجات كما بعض أسواق مصر وتركيا وأوروبا ويصبح مزارًا لكل من يحب الفنون.