يتلقى غالبية عمال المحال التجارية في قطاع غزة أجورًا زهيدة بالكاد تعينهم على تغطية احتياجاتهم اليومية، وفي المقابل، يُلاقون صنوفًا من قسوة المعاملة وإهانة الكرامة وفق إفادة العديد منهم.
ويضطر المئات وربما الآلاف من الشبان حتى من حملة الشهادات الجامعية، للعمل في متاجر ومحلات وبقالات ومطاعم ومخابز، بهدف الحصول على أجور يومية، يوازي ذلك الإذلال أحياناً والحط من القيمة.
وبحسبِ إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإنّ نسبة المستخدمين بأجر في القطاع الخاص بغزة بلغت 86% للعام المنصرم 2022، فيما يتقاضى 40% منهم أجرًا شهريًا أقلّ من الحدّ الأدنى للأجور في فلسطين المقدّر بـ (1.880 شيكلًا).
يقول خليل عيسى (اسم مستعار) وهو عاملٌ في أحد محلات بيع الدواجن بغزة يقضي 12 ساعة عمل مقابل أجرة قدرها "20 شيكل" ويتحمل على إثرها شتى أشكال الإهانة من رب العمل.
يقول خليل (28 عامًا) في حديثٍ لـ "آخر قصة"، "ليس لدي خيار آخر سوى القبول بهذه المعاملة القاسية من صاحب العمل، فأنا أساهم في إعالة أسرتي الفقيرة، خاصّة أنّ لدينا أفراد مرضى وذوي إعاقة، كما أنّ أيّ عمل آخر بظروف أفضل يتطلب مؤهلات علميّة وأنا لم أتلقَ أي تعليم وأعاني الأمية".
ولا ينسى الشاب شعور الذل والإحراج الذي وضعه فيه صاحب العمل عندما سكب الماء المتسخ على وجهه وملابسه أمام زبون بسبب تأخره قليلاً عن ساعات العمل، يقول: "تمنيت لحظتها لو أنّ الأرض تبتلعني، ومع ذلك في كل مرة أتعرض فيها للشتم والضرب أحيانًا منه أذهب أعتذر منه وأتوسل إليه لمواصلة العمل".
توجهت آخر قصّة للاستماع من رب عمل خليل دوافعه تجاه معاملته القاسية له، فبرر الرجل الخمسيني الذي يجلس خلف مكتبه دون أن يُصرّح باسمه، بأنّ عامله بطيء الاستيعاب، وقال: "في الحقيقة كثيراً ما أندم على أفعالي تجاهه، لكن تراكم الضغوطات النفسية وشح البيع هما الدافع لذلك. أدرك أنها أفعال غير إنسانية لكنني أفقد القدرة على التحكم بغضبي".
ولا يختلف ما يُقاسيه خليل عما شاهدته الشابة إيمان غنيم بأحدِ أسواق غزة، إذ سمعت صراخًا قويًا أثناء تسوقها داخل متجر لبيع الملابس في غزة صادر عن أحد عمال ذلك المتجر وهو يتعرض للضرب الوحشي والشتم من قبل صاحب المحل كما تصف.
وتقول غنيم في لقاءٍ مع "آخر قصة"، وددتُ حينها التدخل بإبلاغ الشرطة عن صاحب المحل أو القيام بتصويره، لكنني وجدت كل مَن كان في المكان يقف صامتاً دون أي تدخل، فتراجعت".
يحفظ القانون الفلسطيني للعامل حقه الكامل بترك العمل في تلك الظروف، فبحسب المادة (42) من قانون العمل الفلسطيني رقم (7) لسنة 2000م، يجوز للعامل ترك العمل مع احتفاظه بحقوقه القانونية بما فيها مكافأة نهاية الخدمة وما يترتب له من حقوق في حال اعتداء صاحب العمل أو مَن يُمثله على العامل أثناء العمل أو بسببه بالضرب أو التحقير.
وبالتالي، فإنّ ما يُلاقيه بعض العمال من معاملة غير جيّدة في أماكن عملهم يتنافى مع مواثيق حقوق الإنسان ومواد القانون الفلسطيني، وفقًا للمحامية سمر أحمد التي أشارت إلى أنّها تتلقى الكثير من الشكاوى المتعلقة بإهانة أصحاب العمل لعمالهم.
الخطوة الأولى:
وقالت المحامية أحمد لـ "آخر قصّة"، "يرفع العمال قضايا وشكاوى على أربابهم يتخللها السبّ والشتم والقذف والتهديد بالفصل التعسفي، وأحيانًا الضرب، وجميعها قضايا يرفعونها بعد تعرضهم للأذى النفسي نتيجة سوء المعاملة"، وهذه من وجهة نظرها الخطوة الأولى التي يمكن للعامل القيام بها في حال تعرضه للإهانة.
كما يُنصف القانون الفلسطيني قضايا العمال في حال ثبوت وقائع الإهانة أيّا كان نوعها، وفقًا لأحمد التي أفادت بأنّ صاحب العمل يُعاقب بدفع غرامة ماليّة يُحددها القانون للعامل صاحب الدعوى في حال توفر شهود على تلك الحوادث.
وتشير سمر أحمد إلى أنّ القانون يضمن حقوق العاملين ضمن عقود عمل أو بدون عقود، إذ لا يشترط في رفع الشكاوى التي تتعلق بالقضايا العمالية أن يكون هناك عقد عمل بين العامل وصاحب العمل؛ بل يكتفي القانون بوجود شهود يُقرّون بقضاء العامل مُدّة معينة في ذلك العمل.
لكن الكثير من العمال، كخليل وغيره، يرضخون لظروف العمل ومعاملة بعض أربابه غير الأخلاقية لقلّة ذات اليد، خاصّة وأنّ 81,8% من الأفراد في غزة يعيشون تحت خط الفقر الوطني. كما يُعاني 45% من السكان في القطاع البطالة وظروفها القاسية.
وتعود المعاملة السيئة في بيئة العمل على العمال بمشكلات نفسيّة عديدة، بحسب ما أفادت به المختصة النفسية بسنت الغنيمي، وقالت لـ "آخر قصّة"، "إنّ بيئات العمل غير الصحية تخلق ندوباً نفسية يصعب شفاؤها فيما يسهل تحولها لصدمات إذا لم يتم التعامل معها بطريقة صحيحة".
ويتعرض العاملون في بيئات العمل السامة والمثبطة للعزائم لاضطرابات نفسية مثل الأعمال التي يتعرض أصحابها للقذف والإهانة وكذلك انعدام الأمان الوظيفي، وفقًا للغنيمي التي أشارت إلى أن هذه الاضطرابات تتمثل في القلق والاكتئاب وجلد الذات.
الخطوة الثانية:
وتقول المختصة النفسية الغنيمي، "إنّ ما يزيد من وطأة تأثير تلك الاضطرابات الناتجة عن سوء ظروف العمل، قبول العامل بتلك الظروف رغم قساوتها بسبب قلة فرص العمل وصعوبة الأوضاع المعيشية، ما يجعل أرباب العمل يستغلون ذلك في ابتزاز العمال والتمادي في إهانة كرامتهم"، لذا دعت إلى ضرورة أن يقوم العمال بتقديم شكاوى بحق أرباب العمل الذين يبتزونهم، حتى لا يقعوا ضحية للاضطراب النفسي.
وللتعرف على دور نقابة العمال تجاه ما يُلاقونه من معاملة غير لائقة في بيئة العمل التقت "آخر قصة" برئيس الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين سامي العمصي الذي قال إنّهم يستمرون بمطالبة الحكومة الفلسطينية بضرورة إجراء تعديلات لقانون العمل الفلسطيني، ترفع من جودة الأمن الوظيفي وتوفر معاملة لائقة بالعمال والعاملات في سوق العمل، بما يتوافق مع معايير منظمة العمل الدولية.
إلا أنّ، العمصي عاد وحمّل كامل المسؤولية فيما يتلقاه العمال من معاملة سيئة وأجور زهيدة على المؤسسات والجهات الحكومية التي اتهمها بأنّها أخرجت العمال من نطاق اهتمامها خاصّة بعدما وصل عدد العمال المتعطلين عن العمل لما يزيد عن مئتي ألف شخص، حسبما أفاد.
وباعتبار وزارة العمل جهة تنفيذية ينصب عملها على تطبيق القانون الفلسطيني في بيئات العمل، قال المستشار القانوني بالوزارة محمد الحداد، إنّهم يُشكّلون إدارة عامة للتفتيش على ظروف العمل ومدى ملاءمتها للقانون، تتضمن تطبيق بنود الأجور والإجازات على الرغم من الإحصاءات التي أفادت أعلاه بأنّ 40% من العاملين يتلقون رواتب أقل من الحدّ الأدنى للأجور.
الخطوة الثالثة:
كما يتولى المفتشون المندوبون من وزارة العمل على أماكن العمل المختلفة مهمة التأكد من عدم وجود أيّ انتهاكات بحقوق العامل بما فيها الإهانة لكرامة العامل، وفقًا للحداد الذي أوضح أنه من حق العمال التوجه إلى الوزارة لتقديم الشكاوى بحق أرباب العمل المخالفين.
وأفاد بأنّ وزارته تنظر إلى أي شكاوى العمال بعين الجدية والسرية، وفي حال ثبتت أيّ مخالفات من قبل صاحب العمل تتخذ إجراءات قانونية رادعة في مدة لا تزيد عن أسبوع من تقديم الشكوى، فيما لم يُشير إلى عدد الشكاوى التي تردهم وإلى مدى انحسارها عن تزايدها.