مع نسمات الصباح الأولى تستعد السيدة الريفية أم طلال عاشور لريّ مزروعاتها التي غرست كل واحدة منهم بعنايةٍ بالغة، حتى أصبح محصولها الصغير يساهم في سدّ احتياجات الأسرة التي تكاد لا تنتهي من الخضروات وبعض الفواكه.
وتقطن الثلاثينية عاشور في منطقة جحر الديك الحدودية التي تمتاز بخصوبةِ تربتها وخُضرة أراضيها، تقول لـ "آخر قصة"، "فكرت في الاستفادة من الأرض الفارغة بجانب منزلي استغلالًا لخصوبة التربة وتوفير بعض نفقات الأسرة التي تذهب نحو شراء الأساسيات من الخضروات".
خلال شهور قليلة تحوّلت الأرض الجرداء إلى جنّة بمساعدة زوجها الذي وفر لها ما يلزم من السماد واستخلص البذور بطرق متعددة، وبدأت في زراعة المحاصيل وفق ما يتناسب مع كل موسم وتوفير مستلزماتها كالنايلون المقوى الذي استعاضت عن الدفيئات الزراعية به لزراعة البندورة وغيرها.
وأصبحت أم طلال تفتح نافذتها على المزروعات من الخضار كالبندورة والباذنجان والبصل والخيار والكوسا، إضافة إلى الورقيات وبعض أشجار الحمضيات والفاكهة كالجوافة والعنب والتين. تقول هذه السيدة: "رأيت أنّه من الأوفر زراعة المنتجات عن شرائها جاهزة فالبذرة الصغيرة تنتج كميات كبيرة وقد أصبحتُ في مأمنٍ من تتبع الأسعار في السوق".
تلك الفكرة التي استهوت عاشور في البداية أصبحت اليوم تحقق لها الاكتفاء الذاتي، وتسدّ احتياجات أسرتها في ظلّ ارتفاع أسعار الخضروات التي تُرهق كاهل الأسر في قطاع غزة، فغدت تلك المحاصيل تزيد عن حاجة أسرة عاشور التي يبلغ عدد أفرادها 5 فقط، وهكذا بدأت تعرض ما يفيض عن طلبها كمنتج قابل للبيع، وتُحقق عائدا مادياً بسيط.
وعاشور هي واحدة من النساء العاملات الذين تُشكِّل نسبة مساهمتهم في القوى العاملة في الأراضي الفلسطينية، 17% من مجمل النساء في سن العمل فيما تعمل غالبيتهن في مهنٍ تقليدية، وذلك وفق آخر إحصاءات صادرة عن المركز الفلسطيني للإحصاء.
يطلق على هذا النوع من المشاريع التي تقودها النساء مسمى مشاريع مُتناهية الصِغر، وفقًا لمدير عام السياسات في وزارة الاقتصاد أسامة نوفل، الذي أكّد أنّ النساء أصبحن يلجأن للاقتصاد المنزلي نتيجةً للوضع الاقتصادي المتردي في قطاع غزة من ارتفاع لمعدل البطالة بين أرباب الأسر، إذ يقوم الاقتصاد الريعي على أساس الاستفادة من الموارد المتاحة للمرأة وتحويلها لمنتج ملموس.
وعلى نحوٍ بسيط من عاشور تزرع شيرين خليفة وهي سيدة متزوجة ولديها 5 أبناء، بعض ما يلزمها وتبتسم وهي تقول "أنا بزرع على قدي"، فهي لم تُفكر سوى بزراعة شجرة ليمون وأخرى مانجا إضافة للنعناع والريحان والعنب والزيتون في الأرض التي تُعمّر فناءِ منزلها رغبةً منها في تحقيق شيء من الاكتفاء الذاتي لأسرتها.
وتروي خليفة التي تعلّمت الزراعة من والدتها واليوم يساعدها فيها زوجها العامل، أنّها تخوّفت من فكرة الزراعة في البداية لكنها وجدت الأمر لا يحتاج إلا بعض الرعاية فقط، تقول، "اليوم لا أدق باب جارتي لأطلب الريحان كما كنت أفعل من قبل، وأصبحت لا أشتري الليمون من السوق، كما أنوي زراعة خضروات أكثر أهمية ولا غنى عنها في أيّ منزل".
خلافًا لسابقتيها، كان لنداء أبو صفر قصة مُغايرة إذ بدأت في تربية بقرة، وبينما تعيش الفتاة الثلاثينية في أسرة مكونة من نحوِ 18 شخصًا يحتاجون باستمرار إلى منتجات الألبان خاصّة في وجبتي الفطور والعشاء، قررت صناعتها بنفسها والاستغناء عن منتجات السوق التي قد لا تتوفر بالجودة المرجوة، وفق قولها.
تعددت منتجات أبو صفر فكان مجموع ما أنتجت حتى اليوم "حليب، وزبدة، جبنة، وسمنة، ولبنة إضافة للعتيق والكشك"، وذلك من الحليب الصافي غير المخلوط بتلك البودرة التي باتت تغزو منتجات الأسواق، حسبما قالت لـ "آخر قصّة"، "كلما زارني أحد وتذوق الطعم أصبح يطلب أن أصنع له مقابل عائدٍ مادي؛ فتحولت الفكرة من مجرد اكتفاء ذاتي إلى مشروعٍ صغير".
وقد كان من الصعب على أبو صفر في البداية التأقلم مع فكرة تربية الأبقار خاصّة وهي تسكن بمنطقة وادي غزة إذ يتزايد الخطر تحديدًا عن فتح عبّارات المياه وغرق الحظيرة بالكامل، لكنها رويدًا رويدًا أصبحت تُجيد الأمر ووجدت أن بقرة واحدة غير كافية على سدّ احتياج عائلتها من تلك المنتجات فقررت المُخاطرة بتربية 6 أبقار في الأرض الملاصقة لبيتها.
هنا فكّرت الفتاة ألا ترفع سقف المخاطرة كثيرًا فقامت بالحصول على قرضٍ من مؤسسة ذات علاقة بدعم المشاريع الصغيرة، وعملت على تلقي دورات تدريبية خاصة بالعناية بتلك الحيوانات وصناعة المنتجات الغذائية منها بطريقةٍ مُعقمة آمنة ترقى بمنتجاتها لوضعها في نقاط البيع والإعلان عنها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فأصبحت تجني مكسبًا يُمكّنها تغطية جزء من احتياجات عائلتها.
وترأس النساء 10% من الأسر في قطاع غزة، فمن بين 10 أسر هناك أسرة واحدة ترأسها امرأة، حسبما أشارت نتائج مسح القوى العاملة التي أصدرها الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
وبالعودة إلى نوفل الذي استفسرنا منه عن آلية دعم وزارة الاقتصاد الوطني بغزة لهذه المشاريع، فقال إنَّ وزارته تُساعد المشاريع متناهية الصِغر فلا تفرض عليها ضرائب البتّة، كما تؤخر تسجيلها ومنحها الترخيص حتى تتحول إلى مشاريع كبرى قائمة بذاتها، وبالإضافة إلى ذلك تمنح أصحابها قروضًا صغيرة يسددونها على فترات طويلة، وذلك في سبيل تشجيعهن على البدء بمشاريع مماثلة.
وتذهب النساء لأنواع مختلفة من المشاريع سواء الصناعية أو الزراعية إذ تعمد من خلالها استصلاح أراضٍ متروكة إضافةً لتربية حيوانات أو طيور، بحسبِ نوفل الذي أفاد في حديثٍ لـ "آخر قصة"، "أنّ هناك أيّضًا مَن أبدعن في صناعة المنظفات ونافسن فيها المنتجات المستوردة التي تغزو أسواقنا المحلية وهي إنجازات تسجل للسيدات"