مَن منّا لا يذكُر بِساط الجدات الصغير ذو الألوانِ الزاهية عندما كانوا يضعونه وسط البيت القديم؛ إلا أنّه أصبح اليوم يبدو كقطعةٍ تراثية نادرة بعدما أصبح الذين يُواظبون على وجوده في بيوتهم قلّة، في ظلّ غزو الطراز الغربي لصالونات البيوت فأصبحت هذه المنتجات على وشكِ الانقراض.
يجلسُ المسن محمد الصواف (77 عامًا) خلف آلة النول التقليدية التي ورثها عن أبيه في ورشته الصغيرة وسط قطاع غزة، فيما يبدو الرجل في مشهده هذا كمن يُجدف عكس اتجاه الريح في زمنٍ تعمر الأسواق فيه بالسجاد التركي والإيراني والصيني وغيره.
وهو بذلك يواجه خطر اندثار المهنة التي يزيد عمرها عن 300 عام لقلّة الطلب عليها ويعد واحد من قلّة يمارسون الحرفة، حسبما قال لـ "آخر قصة"، "أقلع الكثير من صُنّاع السجاد اليدوي عن المهنة وأصبحت صناعة البُسط من المهن التي لا يرغبها السوق المحلي؛ وبالكاد يزورنا هنا الزوار الأجانب ليروا آلية صناعته ويأخذون بعض القطع كتذكار من تراث فلسطين".
كما يعمل الصواف على نقل خبرته لابنه وهو خريج جامعي لم يجد فرصة عمل ملائمة، ففضل مساعدة والده في هذه المهنة اليدوية التي تتطلب الكثير من الجهد البدني لاسيما حركة اليدين والقدمين، وبذلك يهرب من فكاك البطالة والانضمام إلى العاطلين عن العمل الذي بلغ عددهم 223 ألفًا في قطاع غزة فكانت ورشة والده ملاذه الآمن.
ويبلغ سعر المتر الواحد من السجاد المحلي الصنع 40 شيكلًا أيّ ما يُعادل (11 دولار)، بينما يبلغ سعر المتر من السجاد المستورد 30 شيكلًا أي ما يُقارب (8 دولار)، وفقًا للصواف، الذي عدّه سببًا ربما لتراجع الطلب على منتوجاته خاصّة في ظلّ تردي الأوضاع الاقتصادية في قطاع غزة وارتفاع معدل الفقر إلى 59% منذ فرض الحصار قبل 17 عامًا.
وعلى غرار حرفة الصوّاف، تبدو مهنة صناعة الفخار الأصيلة مهددة بالانقراض أيّضًا بعدما عمّرت في قطاع غزة لعقود طويلة، حسبما أشار سيد عطالله (43 عامًا) الذي توارث العمل في هذه الحرفة عن أبويه ويُعد مصنعه في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة واحد من أصل ثمانية مصانع هي فقط التي تحفظ إرث الحرفة من الاندثار في قطاع غزة.
يشكو الفواخري عطا الله من ضعف حادّ في إقبال المواطنين على منتجات مصنعه الفخارية التي أصبحت تقتصر على اقتناء الزبادي تحديدًا على اعتبار أنّه قد لا تخلو مائدة بيت فلسطيني منها، إضافة إلى استمرار أزمة انقطاع التيار الكهربائي منذ العام 2006 كونها شريان أساسي في العمل؛ الأمر الذي ساهم في شُح الإنتاج الفخاري وما ترتب عليه من تقليص عدد العمال في مصنعه.
يقول عطا الله في حديثٍ لـ "آخر قصّة"، "قمت باستثناء أكثر من عشر عمال بسبب قلّة المردود المالي للمصنع واكتفيت بأبنائي الثلاثة فقط، على الرغم من أنَّ صناعة الفخار تحتاج لكادر من العمال تِبعًا للإجراءات المتعددة التي تتطلبها من نقل الطين وفلترته ووضعه في درجة حرارة عالية جدًا تتراوح ما بين 300-400 درجة مئوية".
ونتيجةً لذلك فإنَّ عمل عطا الله مُهدد بالتوقف يومًا ما كما هو حال مهنته تمامًا، لكن انقراض بعض المهن التراثية لا يتوقف على مهنتي صناعة الفخار وصناعة السجاد اليدوي؛ بل يمتد إلى حرفة التنجيد أيّضًا التي باتت على مشارف الانتهاء في قطاع غزة، وهي مخصصة لصناعة الأرائك والوسائد والمراتب من فرشٍ منزلي بما يتضمنه من أرضي أو مرتفع يدويًا.
أحد أولئك الذين ما زالوا مواظبين على حرفة التنجيد هذه هو سليم العكلوك (59 عامًا) إذ يجد نفسه لوحده مع اثنين من رفاقه في هذا العمل الذي يمارسه منذ 4 عقود، ويقول لـ "آخر قصّة"، "استبدل الكثير من أصحاب هذه المهنة إياها مع وجود البضائع المستوردة من الخارج في أسواقنا المحليّة فقد أصبح الناس يُفضّلون الجاهز والمتاح".
ويتنقل الرجل الحِرفيّ ما بين الماكينات الموغلة في القِدم والمتآكلة بفعل عدم سماح الاحتلال الإسرائيلي بدخول آلات جديدة إلى قطاع غزة كغيرها الكثير من المواد الخام الممنوعة الدخول نتيجة الحصار المفروض على القطاع منذ نحو 17 عامًا، لكن العكلوك ما زال وبالرغم من ذلك صامدٌ في العمل الذي ورثه عن أجداده.
وكانت التنجيد تدخل في تأسيس كل منزل جديد ولكَ أن تتخيل مدى الإقبال عليها قديما وحجم ازدهارها لعقود إلى أن حلّت التكنولوجيا بديلًا ومنافسًا شرسًا ساهم في ضعف التوجه نحو الصناعة اليدوية للفرش المنزلي وخلافه، ويقول الكعلوك، "لقد حرص والدي على تعليمي هذه الحرفة ليضمن مستقبلي ولم يتوقع التغيرات التي ستصيب وجودها ومع هذا فأنا اعتبرها مصدر دخلي الرئيس ولا أنوِ استبدالها".
يتشارك الحرفيّين طارق خلف (48 عامًا) والعكلوك ذات الهمّ إلى حدٍ مُشابه، ويعمل خلف في مهنةٍ أخرى لا تقلّ أهمية عن التنجيد أو معاناة في الثبات رغم ما يُحيطها من تحديات تهوي بها نحو الانقراض، وهي صناعة الخيزران بأشكاله الإبداعية ولونه الساحر الذي يوحي إلى زمن جميل وقديم في الأثاث المنزلي.
ولم يتبقَ من أصحاب هذه المهنة إلا ما يُقارب ثمانية فقط في قطاع غزة الذي تبلغ مساحته 365 كم² ويتجاوز عدد سُكانه المليوني نسمة، وفقًا لخلف الذي قال في حديثٍ لـ "آخر قصة"، "تأثرت صناعة الخيزران بالحالة السياسية المتأرجحة التي يعيشها السكان في غزة وأصبحت الكثير من الأدوات اللازمة لصناعتها لا تدخل القطاع".
إضافةً إلى ذلك، فقد قلّ الطلب على المنتجات المصنوعة من الخيزران وأصبح يتركز في أسرّة الأطفال وعكاكيز المسنين وما إلى هنالك، بحسبِ خلف الذي توارثت الأجيال في عائلته هذه الحرفة منذ العام 1916 وكانت لمصانعها فروع في القدس ويافا وغيرها من مدن فلسطين؛ إلا أنّهم اليوم اقتصروا على العمل في غزة وقلّصوا عدد العمال من 150 عاملًا إلى الثلث نتيجةً لضعف الإقبال محليًا على الخيزران ذاته.
حاولت "آخر قصة" الوصول إلى أيّة أرقام دقيقة تفيد بالحجم الفعلي لوجود هذه المهن داخل قطاع غزة؛ لكن ما ثبت أنّه لا تتوفر أيّة إحصاءات رسمية لعدد المصانع أو الورش التي ما تزال تعمل في هذه الحِرف لاقتصارها على التوريث العائلي فقط، فاكتفت بعرض ما رواه أصحابها حسب واقع خبرتهم في مجالاتهم على اختلافها.
وقد تسبب انقراض هذه المهن في ارتفاع منسوب البطالة إلى 47% في صفوف الشباب بقطاع غزة بشكلٍ طبيعي نتيجة إغلاق العديد من المصانع واندثار الكثير من الحرف، التي حوّلت أصحابها من الأثرياء إلى الفقراء وقد كان يُعرف فيما ما مضى أن الحِرفيين أكثر فئات المجتمع ثراءً، أما اليوم فلا يكاد يوفر صاحب هذه المهنة ما يكفي لمتطلبات عائلته.
ويحلم الكثير من الحرفيين في المهن السابقة الذكر إلى أن يعود لحرفهم مجدها وتتبدل الأوضاع الاقتصادية إلى الأفضل فيتوسع العمل وتتضاعف أعداد المصانع وينتعش الاقتصاد الصناعي قليلًا، لتنافس هذه الحرف التي لا ينقصها من الجودة شيء المنتجات العالمية على رقيها ورفعتها.