داخل غرفة تُشبه المخزن تعيش ريما سهيل (اسم مستعار) التي تعاني من إعاقةٍ بصرية جزئية وقد لا تؤذيها إعاقتها بقدر ما يُرهقها التمييز الواضح الذي تُمارسه أسرتها بينها وبين اخوتها الأصحاء.
وتقطن الفتاة العشرينية في تلك الغرفة دون بابٍ يُغلق عليها أو يحفظ خصوصيتها وسط تهميشٍ واضح، حيث تجلس بين الأثاث غير المُستخدم وعفش البيت المتراكم، في مكانٍ شَهِد على نوبات حزنها ومراحل اكتئابها المتعددة.
وتبدو ريما كأنّها تعيش في سجن وهي تخفض صوتها للحديث مع "آخر قصّة"، خشيّة أن يستمع والدها أو أخواتها الذين كانوا يراقبون من بعيد، تقول، "حاولت تعويض النقص فتخرجت بمعدل دراسي عالي لأُثبت لأهلي أنني قادرة على الإنجاز لكن دون جدوى".
وتُفضِل الفتاة الخروج من البيت غالبًا على أن تبقى تحت وطأة معاملة أسرتها التي وصفتها بـ "القاسية"، وتسرد موقفًا من المواقف المتكررة غالبًا إذ يُجلِس والدها أختها بين أحضانه يدللها ويُلاطفها في المقابل يتعامل مع ريما بكل عصبية وسوء.
لا تتوقف ظروف التمييز الحاصلة على ريما وحدها فقد أشارت بيانات مسح العنف المجتمعي الفلسطيني للعام 2019 إلى أنّ نسبة النساء المعنّفات ذوات الإعاقة اللواتي تعرضّن للعنف النفسي بلغت 50% مقابل 20% تعرضن للعنف الجسدي مرة واحدة على الأقل من قبل الزوج.
كما أظهرت نتائج المسح أنّ أكثر أشكال العنف النفسي استخدامًا كانت التمييز داخل الأسرة وجاءت بنسبة 81.6%، تلاه الشتم والسب والصراخ بنسبة 81.3%، ثم الإهانة والتذكير الدائم بالإعاقة بنسبة 76.3%، والتحقير والنظرة الدونية بنسبة 74%.
نهلة مفيد (اسم مستعار) التي تعاني إعاقة حركية هي أيضًا لاقت صنوفًا من التمييز الأسري، تقول لـ "آخر قصة"، "عندما يصل راتبي من وزارة الشؤون الاجتماعية يتقاسمونه فيما بينهم دون استشارتي، ودائمًا ما يكون صوتي غير مسموع في البيت، كما أشعر أنني عبء على كاهلهم فإذا ما رغبت بالخروج لمكانٍ ما أجدهم يتثاقلون من حملي ونقلي".
أثناء حوارنا مع نهلة (15 عامًا) كانت ملامحها تتفق رعبًا وحاولت مقاطعتنا أكثر من مرة خوفًا من والدها، رغم المرات العديدة التي أخبرتنا عنها وقد قضتها حزنًا من استغلالهم لراتبها أو تهميشهم لها وعدم اهتمامهم بآرائها أو مكوثها في البيت لفترات طويلة دون خروج فقط لأنه ليس هناك من يرغب في مساعدتها بالخروج.
تصمت ريما ونهلة وغيرهم الكثير من الفتيات ذوات الإعاقة أمام هذه الأشكال من العنف النفسي والتمييز الأسري، وقد بلغ عدد النساء من ذوي الإعاقة المسجلات في وزارة التنمية الاجتماعية حتى عام 2022، نحو 24 ألف فتاة وامرأة من مجمل ذوي الإعاقة المقدّر عددهم بـ 35 ألفًا، حسب ورقة أعدّتها الوزارة.
وتواجه هذه الفئة من النساء ظروفها الأسريّة رغم ما كفله لها القانون الفلسطيني رقم (4) بشأن حقوق المعوقين في المادة رقم (9) أنّه على الدولة وضع الأنظمة والضوابط التي تضمن للمعوق الحماية من جميع أشكال العنف والاستغلال والتمييز.
أمام النص القانوني الذي يحفظ حقوق ذوي الإعاقة من التمييز يقفز سؤال مفاده هل هناك فتيات حاولوا طلب المساعدة من الجهات المختصة نتيجة معاناتهم من التمييز الأسرى؟ تُجيب سوسن الخليلي أمين سرّ الاتحاد العام لذوي الإعاقة، بأنّه من النادر جدًا أن يُفكر أحد من هذه الفئة بتقديم شكوى نتيجة الضوابط الاجتماعية والعرفية.
وقالت الخليلي لـ "آخر قصة"، "صمت ذوي الإعاقة لا يلغي ما يتعرضون له من مضايقات داخل أسرهم، خاصة عندما يُحرم الكثير منهم حضور مناسبات عائلية واجتماعية خوفًا من وصمة العار التي قد تُلحق بالعائلة إذا عرف الناس بوجود شخص من ذوي الإعاقة فيها على اعتبار أنّه داء (وراثي) مما قد يؤثر على زواج الفتيات لديهم وغيرها من الأفكار وأشكال التمييز المتعددة".
أما ما هو أخطر من حدود التمييز في المعاملة بين الأصحاء وذوي الإعاقة داخل الأسرة نفسها حسبما أشارت الخليلي، هو التمييز الذي قد يصل إلى الحرمان من التعليم والزواج والميراث وما قد يُرافقهم من أشكال العنف النفسي والجسدي كالضرب والإهانة والتجاهل وغيرها، مبينةً أنّه حرمان من أبسط الحقوق التي كفلها القانون للبشر.
وربما لم يأتِ سكوت النساء من ذوي الإعاقة عن المطالبة بحقوقهم في معاملة أسريّة عادلة من فراغ، وفق ما أفادت به المحامية ابتهال أبو نصر التي أشارت إلى أنّ القانون الفلسطيني يُعاني قصورًا حيال ذوي الإعاقة خاصّة المادة (9) باعتبارها النصّ القانوني الوحيد الذي تناول الانتهاكات للمعوقين لكنه ومع ذلك لم يأتِ على ذكر أي نوع من أنواع العقوبات إزاء مخترقي القانون، وفق قولها.
بدورها، أرجعت المختصة الأسرية سعاد أبو ضلفة أسباب التمييز الأسري الحاصل بين الأفراد ذوي الإعاقة وقرنائهم من الأصحاء إلى أنّ هناك أسر لا تتقبل وجود فرد من ذوي الإعاقة داخلها فيترتب على الأمر المعاملة السيئة والحادة والخجل من نظرة المجتمع كما ينعكس سلوك الأبوين على باقي الأفراد تجاه ذوي الإعاقة؛ مما يجعلهم في حالة توتر وغليان طوال الوقت وما يتولد عنه من مشاكل نفسية أخرى كالعزلة والاكتئاب وغيرها.
وبناءً عليه، يُفترض أن يتعامل الأهل مع أحد أفراد ذوي الإعاقة في الأسرة تعاملا انسانيا صحيا وشموليا وليس تعاملًا مبني على التعاطف والشفقة، وفق ما تقدّمت به المختصة النفسية هويدا الدريملي التي أشارت أيضًا إلى ضرورة تمكين الأفراد ذوي الإعاقة من أدوات مساعدة وملائمة ليصلوا للرعاية الذاتية والنفسية.
وقالت الدريملي إنّه من واجب الأخوة في البيت الواحد التعاون مع أخيهم من ذوي الإعاقة فلا يحظى بحقوقه الكاملة فقط وانما يشاركونه في واجباته أيّضًا، وأشارت إلى أنّه على الأهل امتلاك الشجاعة لتقبل وجود شخص من ذوي الإعاقة بينهم وعدم نبذه، ومن دورهم خلق بيئة آمنة بين الأخوة داخل البيت حتى يتمكنوا من ممارسة أنشطتهم بالشراكة وليس بالتفرد.