في زوايا متجر "البالة" القريب من منزلها، تَبحث سمر أحمد (20 عامًا)، عن قطعةٍ مميزة بين كومةِ الملابس المُستخدمة والتي تحمل ماركات عالمية على شاكلةـ " غوتشي- فرزاتشي-لوي فيتون"؛ لتتباهى بها الفتاة أمام زميلات الدراسة الجامعية التي لا تستطيع تسديد أقساطها الفصلية كونها تنتسب إلى إحدى العائلات ذات الدخل المحدود في قطاع غزة.
تتحدث الفتاة سمر وهي تعبث بردائها الأبيض الذي يلتف حول عنقها، عن سعادتها الغامرة بالملابس التي ترتديها ولا يتجاوز سعر القطعة الواحدة بحدها الأقصى (30 شيكلاً)، فيما يتناهى إلى مسامعها أسئلة زميلاتها وهن يتساءلن همساً: من أين تحصل سمر على ملابسها؟ علمًا بأنّ والدها واحد من المتعطلين عن العمل في قطاع غزة والبالغ عددهم 223 ألفًا.
وقد أصبحت متاجر البالة ملجئاً للعديد من الأسر الفقيرة في القطاع خاصّة بعد ارتفاع معدلي الفقر المُقدّر بـ 53% والبطالة المقدّرة بـ 45%، وانتشار هذه المتاجر في الأحياء الشعبية وحتى في المناطق الحيوية كحي الرمال مثلاً الواقع وسط مدينة غزة، بعدما كان يقتصر زبائنها على مرتادي الأسواق الشعبية والمفتوحة كـ"سوق فراس" وسط مدينة غزة، وسوق الجمعة وغيرها من الأسواق الشعبية المشهورة.
تقول الفتاة أحمد في حديثٍ لـ "آخر قصة"، "أنتظر بفارغ الصبر قدوم بضائع جديدة للمتجر من أجل اقتناء الملابس الجميلة ذات الماركات العالمية بأسعارٍ زهيدة مقارنة بقيمة الأسعار في المحلات المستوردة لتلك الماركات".
تمر البالة بقطاع غزة عبر المعبر التجاري "كرم أبو سالم" والذي يخصصه الاحتلال الإسرائيلي لمرور البضائع للقطاع المحاصر منذ 16 عاماً. وتستورد البالة من مصدرين أحدها أوروبا والآخر إسرائيل. وفي الحالتين يفرض عليها ضرائب، الأمر الذي يعتبره التجار سبباً رئيسياً في ارتفاع قيمتها.
سعيد جبر (اسمٌ مستعار)، هو الآخر يتخذ من البالة قبلةً، لتلبية احتياجات أسرته وأطفاله الثلاثة من الملبوسات، ويقول: "أرتاد البالة في كل المواسم صيفاً وشتاءً، من أجل اقتناء ملبوسات ذات جودة وتحمل علامات مميزة يمكننا أن نفاخر بها، وفي ذات الوقت لا تستنزف جيوبنا".
وعلى الرغم من أنّ سعيد (43 عامًا) يعمل موظفًا في القطاع الحكومي، إلا أنّ الاستقطاع الحكومي من الراتب بقيمة النصف تقريباً يجعله غير قادر على الإيفاء بكافة مستلزمات أسرته، مشيراً إلى أنه يجد في البالة من الماركات العالمية ما يساعده على كسوة أطفاله بلباسٍ مميز من ماركات مختلفة مثل "Baby Gap, Gap Kids".
وكما وفرت البالة المال على مرتاديها فقد ساهمت اليوم في توفير فرص عمل أيضًا للباعة في هذا المجال، وأحدهم هو سامح فوزي (33 عامًا) الذي يقسم أيام الأسبوع للبيع في الأسواق المفتوحة التي تنشط في مخيمات قطاع غزة، ويُقدّر الرجل أنّ هناك المئات مثله من الباعة والموزعين في الأسواق المفتوحة.
سامح أبٌ لثلاثة أطفال وأحد الخريجين الجامعيين البالغ عددهم 13,948 خريجاً وخريجة في قطاع غزة، والذين لم يحظَ جزءٌ كبيرٌ منهم بفرصةِ عملٍ تناسب تخصصاتهم الجامعية، ويعمل في بيع الملابس المستخدمة لمتاجر البالة. وعن هذه التجربة قال لـ "آخر قصة"، "أنا خريج دبلوم صناعة لكني لم أجد فرصة عمل في مجالي فاتجهت لبيع بضاعة البالة التي ساعدتني على توفير احتياجات عائلتي وسدّ رمق أطفالي".
يشير بائع البالة إلى أن استيراد هذه البضاعة من منطقة جغرافية إلى أخرى داخل الأراضي المحتلة، يشكل فارقاً في السعر، معبراً عن شكواه من الضرائب التي تفرضها ثلاث جهات بدءا من الاحتلال مرورا بالحكومتين في قطاع غزة والضفة الغربية.
ويرى فوزي أنّ التوجه للشراء من البالة لم يعد حكرًا على العائلات الفقيرة بل إنّ هناك الكثير من الأسر التي لديها دخل ثابت بينما لا يكفي لسدّ احتياجاتها المتنوعة ويتوجهون إلى البالة كمنفذ أساسي يتخيرون منه القطع الجيدة بأسعارٍ تناسب محافظهم وبجودة تليق بأذواقهم وتحفظ أناقتهم.
ومن الواضح أنه قد تعزز في قطاع غزة وجود طبقتين إحداها كادحة والأخرى برجوازية، وذلك عائد إلى الأزمة السياسية والاقتصادية التي طالت موظفي القطاع الحكومي وتسببت باستقطاع قرابة النصف من رواتبهم، وهو ما أدى إلى انعدام الطبقة الوسطى، حتى صار معدومو ومحدودو الدخل زبائن مشتركين لدى باعة البالة.