تلك الحادثة المفجعة التي خيّمت بالحزن على قطاع غزة، فظلّ السكان لنحو ثلاثة أيام يحبسون أنفاسهم بانتظار انتهاء تحقيقات النيابة العامة بأسبابِ وفاة 22 شخصًا من عائلة أبو ريا، نتيجة حريق نشب في شقة سكنية داخل مبنى العائلة الواقع في منطقة تل الزعتر بمخيم جباليا شمال قطاع غزة.
وحتى مساء اليوم الأحد أعلنت النيابة العامة ووزارة الداخلية والأمن الوطني في قطاع غزة، عن الوقائع المتعلقة بنتائج التحقيقات التي أفضت إلى عدم وجود أي متسبب خارجي في الحادثة، وأنّ الحريق نتج عن سوء استخدام أحد أفراد العائلة لمادة البنزين خلال مراسم احتفالية أُقيمت بقدوم أحد أفراد العائلة من سفرٍ خارجي.
فيما استندت نتائج التحقيق إلى جملة من الأدلة، أهمها التقارير الفنية الصادرة عن إدارة الأدلة الجنائية، ومديرية الدفاع المدني ودائرة المصادر الفنية بالمباحث العامة، وشهود العيان وكاميرات المراقبة في محيط المنزل.
بدوره تواصل فريق "آخر قصة" مع خبير الحرائق الأردني عاطف عباسي، الذي عقّب على المؤتمر الصحفي للنيابة العامة، بقوله: "التقرير متماسك، والسيناريو منطقي، كما أن الناحية الفنية صحيحة، وهو يتوافق مع استبعادي المسبق لوجود شبهة جنائية".
وفي التفاصيل وقفت "آخر قصة" على مجريات الحادثة في محاولة لجمع الخيوط استباقًا للأحداث وناقشت الاحتمالات الواردة لأسباب وقوع هذه الحادثة المروّعة، في ظل تداولات العديد من السكان بروايات متعددة.
وفي التحقيقات الأوليّة وبحسبِ وزارة الداخلية في غزة، كما جاء على لسان المتحدث باسمها إياد البزم، فإنَّ التحقيقات أعادت السبب إلى وجود كمية مُخزنة من مادة البنزين داخل المنزل؛ الأمر الذي تسبب باندلاع حريق هائل ووقوع عدد كبير من حالات الوفاة.
حسام علي شاهد عيان من جيران الضحايا، قال إنه عندما خرج من منزله في اللحظات الأولى للحادثة، سمع صراخاً، وحين وقف بموازاة بيت الضحايا رأى أطفالاً وأمهم يحترقون جميعاً وينادون لنجدتهم.
وأضاف علي، "توجهت ومن معي من الجيران نحو باب البناية من أجل فتحه وقد استغرق الأمر بعض الوقت لأنه باب حديدي محكم الإغلاق، صعدنا إلى الأدوار العليا فوجدناها أيضا مقفلة. وبعد كسر أبوابها تدفق الدخان والنار إلى الخارج، ولم نستطع التدخل وقتها، فانتظرنا وصول الدفاع المدني".
جبر صالح في الستين من عمره، شاهد آخر من الجيران على حريق عائلة أبو ريا، قال مصدوماً: "لقد رأينا شيء لم نتخيله مطلقاً" في إشارة إلى هول الصدمة الناتجة عن وفاة 21 شخصاً من جيرانه احتراقاً.
وأضاف صالح، "عندما اشتعلت النيران رأينا الأطفال يتقافزون على الشبك الحديدي الذي يُشكل حماية للنافذة، حاولنا الاتصال بأقربائهم من أجل نجدتهم واكتشفنا أنَّ الهواتف مغلقة، ثم تبين فيما بعد أن الجميع متواجدون في الطابق الأخير من البناية".
وتأتي هذه الشهادات الحية في وقتٍ أشار فيه الصحفي محمد الخالدي في إفادة له على موقع فيسبوك، بصفته أحد جيران الضحايا، إلى تأخر وصول مركبات الدفاع المدني إلى مكان الحادث، وهو أمر قال عنه إنه ساعد في وفاة عائلة بأكملها.
وتُثار الكثير من الأسئلة حول دوافع الحريق، من أبرزها: متى يتم التفكير بالاشتعال الذاتي كسبب للحريق؟، والذي أجاب عليه خبير الحرائق الأردني عاطف عباسي، مُشيرًا إلى احتمال حدوث حريق ذاتي الاشتعال عندما يتوفر مصدر اشتغال آخر، أو وجود احتمالية تفاعل كيماوي أو بيولوجي.
كما أوضح عباسي إلى مخاطر استخدام قاتلة الناموس الكهربائية في أماكن مغلقة وغير مراقبة، حيث بيّن أنه في حالة تسرب غاز ترتفع نسبته في الهواء الجوي تدريجيا لتصل حدود الانفجار، مع توفر شرارة قاتلة الناموس بين الحين والآخر.
وتتسع دائرة الاحتمالات، في ظلّ ما يُشاع عن وجود إطارات سيارات ووقود داخل الغرفة التي احترق فيها الضحايا، غير أن وزارة الداخلية تحظر الدخول إلى المسكن ويقتصر الأمر على أجهزتها الأمنية بما فيه الأدلة الجنائية، وبالتالي لن يتسنى معرفة حقيقة الموجودات في الغرفة ما لم تفصح الوزارة عن النتائج النهائية للتحقيقات.
لكن في الوقت نفسه، تتزايد الشكوك حول وجود شبهة جنائية في مسرح الواقعة، ويتداول السكان روايات متعددة، لم يتبين مدى صدق أي منها.
وفي الوقت الذي لم يُحسم فيه الجدل حول وجود مواد بترولية داخل الغرفة المحترقة، لابد من الإشارة إلى أن أهالي القطاع يضطرون إلى اللجوء إلى استخدام مواد بترولية غير آمنة، كالبنزين والغاز مثلا وتخزينها وبخاصّة في فصل الشتاء، لتشغيل مولدات الكهرباء، وذلك في ظلّ استمرار أزمة انقطاع التيار الكهربائي الممتدة منذ 15 عامًا.
واتفق خبير الحرائق والمدرب في هذا المجال عاطف عباسي، مع ما جاء في تصريح الداخلية، فقال إنَّ السبب الرئيسي في اندلاع الحريق هو تخزين مادة سريعة الاشتعال (بنزين) في مكان غير مخصص لذلك؛ مما يُسبب تطايره في جو المكان وانتشاره على شكلِ مزيج مع الهواء.
وأفاد عباسي في مقابلة صحفية مع "آخر قصة"، "إنّ الوضع جاهز للاشتعال بمجرد توفر مصدر حراري مهما كان صغيرًا، مثل سيجارة أو استعمال البوتاجاز أو أيّة أداة طهي أو تسخين".
وعن إمكانية وجود شبهة جنائية وراء الحادثة، أكّد عباسي على أنّ المكان يعدُ شديد الخطورة بسبب ما يحتويه من بنزين وعدد لا بأس به من الأشخاص؛ لذا لا يحتاج لمن يُشعل النار عمدًا، مُفيدًا أنّ وجود جميع الأشخاص داخل غرفة مغلقة أمر يُثير قليلًا الشبهة الجنائية خاصّة إذا كان مصدر هذه المعلومة هم رجال الإطفاء نفسهم وليسو شهود العيان.
غير أنّه من الطبيعي هروب ساكني المكان للاحتماء في غرفة واحدة وإغلاقها (خلال الحريق)؛ أملاً منهم بحجب النار عنهم؛ بحسب عباسي، الذي استبعد احتمال الشبهة الجنائية مشيرًا إلى أن القاعدة العامة في التحقيق تقول: "كلما تجمعت معلومات أكثر، كلما تجلت الحقيقة أكثر".
وإنَّ وجود صور عن قرب يساعد كثيرًا في دقة التحقيق، بالإضافة إلى ذكر مصدر المعلومة إذ أنَّ أضعفها هي الشهود العاديين وأفضلها من رجال الإطفاء، باعتبارهم أول من وصل الموقع بعد إخماد النار، بحسبِ عباسي.
وحول مدى تحمل الشخص الطبيعي للدخان، قال إنّه في الحرائق عامةً يُمكن تحمل الدخان بنسبةٍ مُتفاوتة (دقائق قليلة عادةً)، وذلك بحسبِ كثافة الدخان وتوفر قليل من الهواء النقي، مبينًا أنّه في هذا الموقع لا تنطبق الأزمة المألوفة لتحمل جو الدخان.
وعلّل ذلك بقوله "لأن اشتعال البنزين سريع جدًا ويُسبِب اشتعال جسم الانسان وتفحمه دون الوصول لحالة اختناق، فتكون الوفاة بسبب احتراق واهتراء الجلد، بالإضافة إلى تلف الأحشاء الداخلية بسبب ارتفاع حرارة الموقع بشدّة"، مؤكدًا على أنّه لا يُشترط حصول اختناق بسببِ الدخان.
بناءً على ذلك، فمهما كان وصول رجال الإطفاء سريًعا فلن يتمكنوا من الإنقاذ، وفق عباسي، الذي أكّد على أنّ ما قام به الدفاع المدني في هذه الحادثة لا يُمكن لأي جهاز دفاع مدني في العالم القيام بأكثرِ منه، مرجعًا ذلك إلى الخطأ الجسيم بتخزين بنزين في شقة سكنية وهي مكان غير مناسب أبدًا.
وكان قد صرّح مسؤول في جهاز الدفاع المدني بغزة خلال تصريحات صحفية بِتلقيهم البلاغ في الساعة 6:18 من مساء الخميس، وتواجدهم خلال 4_5 دقائق في المكان، وقال: "انتشلنا جثثا كثيرة ونقلنا مصابين إلى المستشفى الإندونيسي، بذلنا جهودًا جبارة لإخماد الحريق لكن إمكاناتنا متواضعة جدا".
أما حول ما أفاد به شهود عيان بوجود كاوتشوك في المكان، فقد أوضح عباسي أنّ وجود الكاوتشوك لا يُعطي أيّة شبهة جرمية، معللاً ذلك ببطء اشتعاله عادةً؛ مما يعني انعدام دوره في ظلّ وجود البنزين.
كما نوّه إلى أنّه لو لم يكن البنزين موجودًا في المكان لأمكن إنقاذ الضحايا خلال 15 دقيقة تقريبًا، فالخطر يكون حينها من الدخان المنطلق من الكاوتشوك فقط.
وكان قد أعلنت وزارة الداخلية بغزة عن تشكيل لجنة مختصة للتحقيق في الحريق والوقوف على كافة ملابساته، فيما دعا عباسي إلى ضرورة إعداد سيناريو افتراضي يأخذ شكل قصة قصيرة، حول تدرج الخطر وصولاً لحصول الكارثة؛ بهدف التوعية المجتمعية تجنبًا لتكرار الحادثة.