للمرة السادسة خلال شهرين تستدعي إدارة المدرسة والدة الطالب عبد الله على إثر مشاكل عديدة يفتعلها مع أقرانه، فوفقًا لوالدته يضرب أحدهم تارة بالكرسي تاركًا على جسده آثارًا واضحة، وتارةً يضع رأس القلم الرصاص في جسدِ آخر فتنساب الدماء منه، ولا ينفك عن استخدام المصطلحات البذيئة فيُبادله إياها زملائه في بيئةٍ لا تليق ببيئة التعليم.
يدفعنا هذا السلوك لطرح تساؤل مفاده، ما الذي جعل عبد الله (اسم مستعار) يُقدِم على أفعالٍ "غير لائقة" ومرفوضة مجتمعيًا؟ وتجلّت الإجابة على لسان والدته التي قالت إنَّ ابنها ذو الثمانية سنوات، يتعرض لعنفٍ كبير داخل البيت من جدته الستينية وأبيه، تحت ما يسمونه "التربية الصحيحة" بحسبِ ما أفادت به الأم.
وتمارس الجدة أشكالًا منوعة من التعنيف على عبد الله وإخوته، فتضرِبهم بعصا المكنسة ضربًا مُبرحًا، أو تسجنهم في دورةِ المياه لساعاتٍ طويلة، ويأتي هذا بناءً على أخطاء وصفتها الأم بالهينة والعادية إذ يفعلها أيّ طفل كأن يلعب بصوتٍ مرتفع مثلًا.
تقول أم عبد الله لـ "آخر قصة" والحزن يعتريها على إثرِ ما يُصيبه وإخوته الخمسة من جدَتهم وأبيهم: "البيت كله يعيش تحت سطوة الاثنين، أنا أتحمل الأذى لنفسي لكن لأولادي يصعب عليّ. حاولت انتزاع الأطفال من أيدي جدتهم عدّة مرات؛ لكني لم أرى خيرًا بعدها من زوجي أبدًا".
وكثيرًا ما تُقدم إدارة المدرسة إنذارات فصل لعبد الله وتتصل على والديه مستدعيةً إياهم؛ نتيجة لما يمارسه من سلوكيات مرفوضة في المدرسة، بحسبِ والدته التي أردفت: "قبل أيام استدعتني مديرة مدرسته التي شكت من عبد الله وضربه المستمر لزملائه بكل ما يقع تحت يديه من أدواتٍ سواء حادة أو غير حادة، ولا يدّخر فرصة لإيذائِهم وفرض سيطرته عليهم".
يمارس الطفل تصرفات عدوانية في محيطه وهي تأتي كردود فعل لما يُلاقيه من عنفٍ أُسري، وفق المختصة النفسية والاجتماعية فلسطين ياسين التي أكّدت على ضرورة وجود حياة آمنة في الدائرة المُقربة من الطفل، وقالت: "للطفل الحق في العيش داخل بيئة صحيّة فاستيقاظِه من النوم على أصوات عراك بين والديه أو رؤية أدوات مُتهشمة في أرجاء البيت ينعكس على سلوكه فورًا".
ويُؤثر الأمر بوضوح على شخصية الطفل وتنشئته على الوجه السليم فيؤدي إلى نموه نموًا غير سويًّا ويعمل على انعدام الثقة بينه وبين عائلته، وفق ياسين، التي أفادت أنّ الأمر يتسبب بظهور سلوكيات غير مناسبة وعدوانية عليه في سنّ مُبكرة.
وتصل نسبة الأطفال الذين تعرضوا للعنف إلى (90.1%) في عام 2019، وذلك من مجمل نسبة الأطفال في قطاع غزة التي تُشكّل 47.3% من ضمن الفئات المجتمعية الأخرى؛ مما يعني أنَّ ما بين كل 10 أطفال من عمر (1-14 سنة) هناك 9 يتعرضون للعنف سواء كان بدنيًا أو نفسيًّا، وفق إحصاءات المركز الفلسطيني للإحصاء، وقد جاءت النسبة مُتقاربة إلى حدٍ ما بين الذكور الذين يتعرضون للعنف إذ بلغت نسبتهم (92.3%)، أما الإناث شكّلوا نسبة (87.9%).
ووفق الإحصائية فإنّ العنف لا يقع على الأطفال الذكور فقط؛ لكنه يتجاوز ذلك إلى الإناث أيضًا ويؤثر عليهم بأشكالٍ مختلفة، فمنهم مَن تلحظ عليها المعلمات في الفصل ردود فعل عنيفة وفظّة ومنهم مَن تعيش في عُزلةٍ منفردة كسلمى (اسم مستعار) ابنة التسعة أعوام، والتي دائمًا ما تظهر عليها كدمات الضرب من فترة إلى أخرى.
وقالت المرشدة التربوية اسمهان أبو يوسف، إنَّ الطفلة "سلمى" تُعاني انعزالًا عن كل الطلبة في الفصل ولا تمارس أيّ نشاط داخل البيئة الصفيّة أو خارجها، رغم تحصيلها الدراسي الجيّد، مشيرةً إلى أنّهم لاحظوا ظهور كدمات على جسدها فحاولوا معرفة السبب وبعد عدّة محاولات أفصحت أن والدها يعاقبها بالضرب على أيّ خطأ تفعله.
قامت إدارة المدرسة باستدعاء والد الطفلة وحاولت الحديث معه بشكلٍ وديّ وتربوي؛ حسبما أفادت المرشدة، لكن ردة فعله كانت صادمة إذ قال: "هذه ابنتي وأنا لدي الحرية المُطلقة في تربيتها بالطريقة التي أراها مناسبة. البنت يجب تربيتها بأسلوب عكس الولد".
ورغم تنافي أفعال الوالد مع ما ينصّ عليه قانون الطفل الفلسطيني رقم (7) لسنة 2004، في المادة (42) التي تؤكد أنّ للطفل الحق في الحماية من أشكال العنف أو الإساءة البدنية أو المعنوية أو الجنسية أو الإهمال أو التقصير أو التشرد أو غير ذلك من أشكال إساءة المعاملة أو الاستغلال؛ إلا أنّ الصغيرة وغيرها الكثير ما زالوا يتعرضون لأشكالٍ متنوعة من العنف.
ويُعاز ذلك، إلى وجود فجوة بين القانون الفلسطيني الذي يدعم الطفل وبين الواقع الذي يعيش فيه هذا الطفل، وفق ما قالته منسقة العيادة القانونية في جمعية عايشة لحماية المرأة والطفل هبة الدنف، التي علّلت الأمر بعدم وجود التعزيز الكافٍ لدائرة الحماية الخاصة بالطفل الفلسطيني، وضرورة الإقرار بالقانون الفلسطيني وتطبيقه على أرض الواقع، وتوفير الحمايات والضمانات الكافية لحماية الطفل المُعرَّض للعنف.
وفي خضّم هذه التضاربات كان لابد أن نتوجه إلى دائرة حماية الطفل في وزارة التنمية الاجتماعية بغزة؛ للتعرّف على الدور المنوط بهم إزاء هذه الفئة الهشة مجتمعيًا وما هي الإجراءات التي يتخذونها لحماية الطفل من أسرة وبيئة غير صحيّة؛ لكن بعد محاولات حثيثة لم يتسنى لنا الوصول للمعلومات الكافية أو تلقي ردًا مناسبًا من الوزارة.