صغيرة كنت أقف على رؤوس أصابعي لأرى كيف ينضج الطعام في حلّة أمي، كانت فكرة إعداده وطبخه من العدم تستهويني فكيف نرصّ سفرة كبيرة من مكونات بسيطة ونصنع طعامًا شهيّا يظلُ مذاقه يُصاحبنا لفتراتٍ طويلة، ولما تزوجتُ وسافرتُ من غزة إلى جدة في السعودية كان من الصعب أن أتصل اتصالات دولية على أمي لأتعلم منها الطبخ فأصبح الانترنت والكتب وُجهتي والتجربة فسحتي للتعلم.
أنا الشيف ميساء الطنّة (35 عامًا) تزوجتُ وأنا في سنّ التاسعة عشر، وتغربت عن الأهل والأحبة، لم يكن العام الأول ورديًّا قضيته في اكتئاب وحزن شديد، لكني اتخذت قراري إما أن أتعايش مع الغربة وأستثمر وجودي بما يفيدني وأسرتي أو أبقى في عزلة وغمّ، فسجلت في الجامعة وكوّنت علاقات جديدة وتعرفت على أصدقاء وزملاء وحصلت على بكالوريوس إدارة أعمال، وكنت كلما تعبت من مسؤولياتي بين البيت والدراسة فكرت في سعادة أهلي بي وبإنجازي.
عملت بعدها في مدرسة دولية كمسؤولة للأنشطة ثم بدأت مشروعي في الطبخ "Smile Kitchen" وأنا لم أزال موظفة حينها، وكان لدي 3 أطفال في المدرسة وأخوهم الصغير رضيع، وما أن رأيت مشروعي يعمل جيدًا قررت التفرغ له وللبيت وتركت العمل في المدرسة، أذكر كيف كنت لا أنام أكثر من 3 ساعات في اليوم لكثرة الضغوطات عليّ ما بين تجهيز المأكولات والتحضير والتغليف وإدارة منصات التواصل الاجتماعي والتسويق والتصوير.
لم يكن العمل كـ طاهية سهلا عليّ وواجهت العديد من الانتقادات الجارحة على العمل والتصوير والظهور على منصات التواصل، فكان الحلّ الاستمرار والإصرار على النجاح، فتلقيت دورة "الشيف المحترف" في الأكاديمية الدولية لفنون الطهي في دبي "ICCA Dubai" وهنا أدركت أن مهما كان لدينا الهواية والمهارة فإنّ الدراسة تثقل مهارتنا وتقوي تجربتنا في العمل.
وبالتأكيد فإنّ المهارة مطلوبة أمام الدراسة فكل هواية تحتاج الخبرة والممارسة ليبدع المرء فيها، والعمل "شيف" يتطلب حب وشغف كبيرين ليصل احساسنا لما نقدمه من طعام، ففنّ الطبخ يحتاج تجارب وخبرة واستمرارية ليرتقي الطاهي بمستواه فيها، وإنّ دراسة الطبخ وحدها لا تكفي فهي تستلزم الكثير من الممارسة والتطبيق لتظهر فيها موهبة "الشيف" على أكمل وجه.
عندما بدأت مشروعي كنت أقدم الأكلات الفلسطينية الشهيّة والتي أتقنها باحتراف، وبعد فترة من تقدمي في العمل تقدمت إلى مسابقة "الوليمة شيف" وهي أكبر مسابقة طبخ تُقام في المملكة العربية السعودية، وبإصرار كبير ورغبة في النجاح حصلت على اللقب وتمكنت من الفوز؛ مما فتح أمامي العديد من الأفق وأكسبني الشهرة داخل المملكة وخارجها وقدم لي الفرص المميزة في عملي.
لدي قناعة أنّ كل شخص يؤمن بنفسه وبقدراته يستطيع أن يحقق ذاته بأقل الإمكانيات، وفيما يتعلق بالطبخ فقد أصبح عالم اليوتيوب ميدانًا واسعًا للتعلم والتجربة وهناك الكثير من الدورات التي تقدم المعلومات على طبقٍ من ذهب وتُكسب المتدربين مهارات عملية لا يمكنهم الحصول عليها وهم جالسين في البيت؛ لذلك أقول لكل مَن لديه الرغبة آمِن بنفسك أولًا وانطلق لتعانق حلمك بكل صبر وإبداع.