"الزيت عمود البيت" لم يُقال هذا المثل الشعبي الفلسطيني عبثًا، وعند التأملِ فيه نرى العدد المهول لاستخداماتِ زيتِ الزيتون في أصغرِ التفاصيل اليومية الدقيقة وأكبرها داخل كل بيت، فهو مكونٌ أساسي في مكوناتِ المؤنةِ الشهرية أو السنوية كل حسب استطاعته وقدرته المالية، فضلاً عن أنه يدخلُ في عدة صناعات أساسية تنتجها البلاد كالصابون النابلسي مثلًا.
ليس الصابون وحده، فهذه السيدة الستينية تمام عيسى، تستخدم زيت الزيتون في صناعةِ الكحل العربي يدويًّا، بطريقةٍ ورثتها عن والدتها وجدتها، تقول: "الكحل الطبيعي له فوائد كثيرة في حماية العين وأنا استخدمه في علاج الكثير من الناس رجالا ونساءً".
عن تفاصيل صناعته، تقول عيسى لـ "آخر قصة": "هذه طريقة تقليدية أصنع بواسطتها الكحل بسكب الزيت بمقدار معين على قطعة قماش أو قطن أو شاش أبيض وأوقد تحته اللهب، ثم أغطي القماش بطبقٍ معدني لتتحول تدريجيًا إلى قشرة رماد حالك السواد تلتصق بسطح الطبق".
وداخل تلك المكاحل النحاسية اللون الأثرية التي تُعطي شعورًا بالإرث العربي القديم وأصالته، تُعبئ السيدة تمام هذا الكحل بعدما تكشط قشرة الشاش الأبيض المغمورة بالزيت والتي تحولت لرماد، وتستخدمه للعلاج العينين من الجراثيم وتخفيف الانتفاخ والاحمرار الناتج عن الحساسية الموسمية، فيما تُحصل فعالية ممتازة.
لم يُصبح للزيتِ هذه المكانة إلا نتيجةً لشهرة البلاد في زراعة أشجار الزيتون على مرّ السنين فموسم قطافه يمثلُ عرسًا وطنيًا لقيمته المتجذرة في الأرضِ كإرثٍ عريق، ولموفور إنتاجه عامًا تلو عام، إذ قدّرت وزارة الزراعة المساحات المزروعة بأشجار الزيتون في قطاعِ غزة لوحده، خلال الموسم الحالي لعام 2022، بنحو 43 ألف دونم، بينها 34 ألف دونم مساحات مثمرة.
ولغزارة الإنتاجِ هذه انعكاسٌ على كافة مناحي الحياة، إذ أنَّ الغزيين يُدخلون الزيت في الطب الشعبي، والعلاج، والتجميل، وإعداد الطعام، وغيرها فلا تكاد تخلو خزانة مطبخٍ كان من صفيحة (تنكة) الزيت التي يُقدّر سعرها بحدود 400 شيكلًا.
في الطبِ الشعبيّ نجد أنَّ هناك طريقة للعلاج الطبيعي ما زالت الكثير من العائلات تستخدم فيها زيت الزيتون للتدليك وعمل "المساج" للجسم، بطريقةٍ تقليدية يتوارثها كبار السن رجالاً ونساءً جيلًا بعد جيل، وتسمى في غزة بـ "قطعِ الخوفة"، وفيها يضع المُعالج شيء من الزيت الدافئ على يديه ويبدأ بتدليك مناطق مُحددة من الجسم تكون مُتصلبة (مُتحجرة) ثم تصبح بفعل التدليك أكثر مرونة.
وتنتشر طريقة العلاج الشعبي بالتدليك من خلال زيت الزيتون في قطاعِ غزة بصورةٍ ملحوظة نتيجة لما يُعانيه السكان من اعتداءات مُتكررة للاحتلال الإسرائيلي تبث الخوف والرعب في نفوس الأطفال والنساء، وبعد لجوؤهم لهذه الطريقة من العلاج بزيتِ الزيتون البكر يشهدون تحسنًا واضحًا يُشيدون به.
يُعرّف زيت الزيتون البِكر بالزيت المُستخلص من أشجارِ الزيتون بطرقٍ طبيعية فقط، وفي ظروفٍ حرارية مناسبة، فلا تتغير مواصفات الزيت إذ يحتفظ بطعمه الأصلي ورائحته المميزة والفيتامينات الطبيعية وهو مصحوب بمعلومات خاصة به عن أصله الجغرافي.
لم تأتِ تلك الاستخدامات جُزافًا إذ أنَّ لزيت الزيتون فوائد كشفتها دراسات طبية وبحوث مُعمقة منها دراسة نُشرت نتائجها في مجلة "الكلية الأميركية لأمراضِ القلب" تُفيد بأنّ إضافة أقل من ملعقة كبيرة من زيت الزيتون إلى النظام الغذائي تُقلل خطر الوفاة بسببِ أمراض القلب أو الرئة واضطرابات الدماغ والسرطان.
نظرًا لتلك القيمة الكبيرة لزيت الزيتون لدى العائلات في قطاعِ غزة، نجدهم يستخدمونه كهدايا في الداخلِ والخارج، إضافة إلى أنَّ القطاع يُصدِّر الزيت إلى دول الخليج منذ بضعِ سنوات، وتُقدّر كمية زيت الزيتون الذي تُجهزه وزارة الزراعة هذا العام للتصدير إلى السعودية والإمارات بـ 50 طناً وهي الأعلى منذ 3 سنوات، نتيجة وفرة كمية إنتاج الزيتون الذي نتج عنه نحو ألفِ طن فائض من إنتاجِ زيتِ الزيتون، وفق المتحدث الفني باسم وزارة الزراعة في غزة محمد أبو عودة.
كما ابتكر العديد من أصحاب المشاريع طريقة لاستغلال بقايا عصر الزيتون المُسمى بـ "الجفت" لأغراض الإشعال والتدفئة وأيضًّا في المنازل للخبز وتحميص الحبوب، ووفقًا لإحصاءات وزارة الزراعة، فإن 28 ألف طن من الزيتون المُحول للعصر، يُنتج نحو 60 ألف طن من الجفت (تفل الزيتون).
وكان السيد الستيني عمر حرب من أوائل مَن ابتكر طريقةً لاستغلال الجفت، فهو يمتلك معصرة زيتون في قطاعِ غزة، وخلال عمله لاحظ الكميات الكبيرة التي يُخلّفها الزيتون بعد عصره، فبدأ في استخدامه لتشغيل الماكينات في أحدِ مشاريعه لتوفير كميات الوقود واستخدامه كبديل صديق للبيئة.
وقال حرب لـ"آخر قصة" في البداية البعض استغرب من الأمر، لكني بالفعل تمكنت من استخراج الجفت ثم عملت على تجفيفه وتحويله إلى بديل عن الوقود، يستخدم الآن في تشغيل محمص للمكسرات ومخبز أيضاً".
تبقى منافع زيتِ الزيتون واستخداماته التي تطال مجالات مُتعددة ومتخصصة تنبع من أصل شجرةِ الزيتون المُباركة وجذرها الثابت وغصنها الذي يُشير عُرفًا عالميًا للسلام والمحبة فيقطُر خيرًا وبركةً على كل يدٍ تستخدمه وتستنفع من محصوله وثمرته.