يَقضي الشاب مهند أبو مصطفى (29 عامًا) من مدينةِ غزة، نحو خمس ساعات يوميًا في البحثِ عن فرصة عمل، يَطرق خلالها أبواب المحلات التجارية والمطاعم المُنتشرة في طُرق المدينة، غير مكترثٍ لشكل أو طبيعة المهنة التي من الممكن أن يظفر بها، "المهم أن تُمكّنه من الإنفاق على الأسرة" كما يقول.
ولكن أبو مصطفى الذي أنهى دراسة إدارة الإعمال، يعود مثقلاً بالخيبة يومياً، بعدما تُغلق كل الأبواب في وجهه، ويبقى مفتوح أمامه باب أمه التي تعتاش على راتب تقاعدي، لنيل مساعدة مالية لا تتجاوز في أحسن الأحوال 20 شيقلاً، تمكنه من جلب احتياجات أطفاله الأربعة.
بقهرٍ بالغ يقول لـ "آخر قصة": "أشعر أنه ليس لي متسع في المجتمع، وأنّي مجرد عالة على أسرتي ومجتمعي. أحاول العثور على أي عمل كان حتى لو عامل نظافة في أي محل تجاري، أريد أن أتخلص من كوني متسولاً معتمداً على والدتي المسنة لإطعام أطفالي".
وحال أبو مصطفى يشبه حال الكثير من الشباب في قطاعِ غزة، إذ يَبدو من المُدهش أنّه ما يَزال العديد منهم _بصرفِ النَظر عن حالتِهم الاجتماعيّة_ يُرهقون كاهل ذويهم ماديًّا باعتمادِهم المالي عليهم إلى حدٍ كبير؛ على عكس ما يتمتع به نظائرهم من حقوقٍ كاملة في التعليم والعمل على حدٍ سواء في دول أخرى.
يَتساءل الشُبان في غزة عن أدنى حقوقهم في توفيرِ فرصِ عمل "لائقة" لقاءَ ما حَصدوه من شَهاداتٍ علميّة، إذ تُشير إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني عام 2022، إلى نسبٍ مُرتفعة للشباب الحاصلين على شَهادات دراسيّة عُليا "بكالوريوس فأعلى"، يُقابله مُعدلات بِطالة عالية، وصلت إلى 65% في قطاع غزة و24% في الضفة الغربية.
وأظهرَ استطلاع رأي ضمَّ 385 مشاركاً من قطاع غزة من الفئة العمرية 18-30 عاماً، أجرته اللجنة الدولية للصليب الأحمر عبر الإنترنت بين 18 يوليو و3 أغسطس العام الحالي. ونُشِرَ في 27 سبتمبر من الماضي، أن ثُلثا الشباب يعتمدون على عائلاتهم في الحصول على الدخل. فيما أظهرت العديد من التقارير آثار الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة والاعتداءات العسكرية المتكررة، في تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية والإنسانية.
فيما بلغ عدد الأشخاص المسجلين عاطلين عن العمل في وزارة العمل بغزة، 320 ألف شخص، ما بين عامل وخريج ينتظرهم فرص تشغيل، بواقع 54% من الخريجين، و43% من العمال و3% من المهنيين.
العاطلون عن العمل ليسوا وحدهم الذين يخشون المستقبل، موظفي القطاع الخاص يُواجهون أيضاً شبح إنهاء العقود بشكلٍ مفاجئ وانعدام الأمان الوظيفي، بسبب الركود الاقتصادي الكبير الذي تُعاني منه القطاعات الإنتاجية والتجارية في قطاع غزة.
وأمام هذا الواقع يضطر الشبان المحرومون من فرص العمل والتوظيف، للانخراط في مهن لا توفر الحدّ الأدنى من الأجور الذي حددته الحكومة الفلسطينية في جلستها رقم (121) العام الماضي 2021، بـ (1,880 شيكلاً) شهرياً في جميع مناطق دولة فلسطين وفي جميع القطاعات، و(85 شيكلاً) يومياً لعمال المياومة وخاصّة العاملين بشكلٍ يومي غير منتظم، فيما بلغت أجرة ساعة العمل الواحدة للعمال (10,5 شيكلاً).
واحدٌ من أولئك الشبان، هو محمد أبو ركبة (31 عاماً) من غزة، والذي يُعيل أسرته المكونة من 5 أفراد بواسطة عمله في قطاع الزراعة بأجرٍ يومي لا يتجاوز 20 شيقلاً مقابل العمل لستِ ساعات متواصلة، يقول لـ "آخر قصة": "أجري اليومي لا يسد أدنى احتياجات أسرتي، كما أنَّ هناك عدة أيام في الأسبوع لا أعمل فيها بسبب عدم حاجة صاحب العمل لي".
نتيجةً لما يعانيه أبو ركبة من ظروف اقتصادية مُزرية يقول أنّه يُجبر على الاعتماد على والده في الحصول على مساعدة مالية شهرية لتوفير احتياجات أسرته من غذاء وملبس. وأشار إلى تقدمه بطلب إلى وزارة العمل بغزة منذ 8 أشهر، من أجل الحصول على فرصة للعمل داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، ولكن حتى اليوم لم يُتاح له المجال بعد.
وكانت حكومة الاحتلال الإسرائيلي، أعلنت في 22 سبتمبر 2022 عن رفع إجمالي عدد العمال من القطاع المسموح لهم بالعمل في الداخل المحتل إلى 17 ألفاً. إلا أن هذا الرقم لا يُمثل سوى ملعقة من الأرز في بطن إنسان جائع، مع وجود عشرات الآلاف من الشبان العاطلين عن العمل في القطاع.
بالعودة إلى استطلاع اللجنة الدولية للصليب الأحمر فإنّ 88.8٪ من المشاركين فيه يعتبرون الحياة في غزة غير طبيعية مقارنةً بالمجتمعات الأخرى، ويرجع ذلك بشكلٍ رئيسي إلى عدّة عوامل وظروف، أبرزها: الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على غزة، والحصار والقيود المفروضة على الحركة، والانقسام الفلسطيني الداخلي، وانخفاض مستوى الدخل وانعدام فرص العمل.
في الإطار، تبين أن 49٪ من شباب غزة يُعانون من التوتر والقلق والاكتئاب، و34.5٪ منهم يعانون من مشاكل اجتماعية مُتعلقة بالروابط الاجتماعية، و12.4٪ منهم يمتنعون عن الزواج. ورأى عدد كبير منهم (أقل من نصفهم بقليل)، أنّه ليس لديهم أمل في الحصول على فرصة عمل خلال الأعوام الخمسة عشر القادمة.
ويرى مختصون اقتصاديون في حديث مع "آخر قصة" أنّ تحول قطاع غزة إلى مجتمعٍ استهلاكي بفعلِ الظروف السياسية التي يعيشها نتيجةً للاحتلال الإسرائيلي، تسببَ في انعدام فرصِ العمل واعتماد الشباب على ذويهم في الحصول على الدخل، ذلك أنّ إنتاجية المجتمع وتصديره تفتح آفاق عدة للعمل داخله.
وتنص المادة الثانية من قانون العمل الفلسطيني رقم (7) لسنة 2000: "العمل حق لكل مواطن قادر عليه، تعمل السلطة الوطنية على توفيره على أساس تكافؤ الفرص ودون أي نوع من أنواع التمييز".
لكن على الرغم من أنّ القانون الفلسطينيّ يضمن الحق في العمل لكل مواطن، إلا أن الجهات الحكومية تعجز عن تأمين هذا الحق، وفق رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني "حشد" صلاح عبد العاطي، الذي قال إنّ الانقسام الفلسطيني تسببَ في تغييب المجلس التشريعي الذي مهمته رسم السياسات لمواجهة التحديات وأهمها الهجرة والبطالة والفقر.
إن الحكومة مُلزمة وفق حديثِ عبد العاطي لـ "آخر قصّة" باحترام القانون عن طريق كفالة حق العمل لكل مواطن، واتخاذ إجراءات أكبر من طرح فرص وظيفية في السلك الحكومي، مثل دعم المشاريع الصغيرة وتوفير بيئة عمل جيدة للمنشآت الإنتاجية كالمصانع والمزارع لتوسيع عملها وخلق المزيد من فرص العمل.
كما دعا إلى تطوير فرص الشباب قائلًا: "يجب تعزيز مشاركة الشباب السياسية وهذا لا يحدث، عدا عن إطلاق الحاضنات الشبابية مثل بنك الفقراء وغيرها من الأفكار التي تساهم في الحد من مشاكل الفقر والبطالة، لكن أن تبقى الأمور بلا معالجة فهذا تعميق للمشكلة".
في المقابل، تقول وزارة العمل إنها تدعم فكرة العمل عن بعد للخريجين باعتبارها الحل الأمثل لمواجهة البطالة.
وقال مدير دائرة التوجيه والإرشاد في الإدارة العامة لخدمات التشغيل في وزارة العمل صالح صهيون، إن وزارته تتبع استراتيجية لتعزيز العمل عن بعد في ظلّ عجز الحكومة عن توفير فرص عمل لكافة الخريجين والعاطلين عن العمل.
وفي الوقت الذي عدّ فيه صهيون ذلك حلاَ لمواجهة أزمة المتعطلين عن العمل، يبقى هذا الحل جزئياً أمام جيش الخريجين العاجزين عن الحصول على فرصة عمل تلبي طموحاتهم، وهو أمر عزز من انعدام الاستقلال المادي للشباب الغزيّ وأثر على العلاقات الاجتماعية.
بدوره، يقول الأخصائي النفسي والاجتماعي إياد الشوربجي لـ"آخر قصة": "مسألة الاعتماد على الوالدين للحصول على الدخل هو أمر طبيعي عند الشباب حتى السنوات الأولى من الزواج في مجتمعنا الفلسطيني، فنرى أن الآباء هم الذين ينفقون على أبنائهم في التعليم الجامعي، وفي أغلب الأحيان يتكفل الآباء تزويج أبنائهم وتحمل تكلفة حفلات الزفاف".
وأضاف الشوربجي: "ولكن ما هو غير الطبيعي أن يستمر طلب الشباب المساعدة من آبائهم في سن متقدمة، وتحمل الوالدين مسؤولية الإنفاق على أبنائهم بعد الزواج أو بعد تخرجهم الجامعي"، مشيراً إلى أن هذه المظاهر هي أبرز تداعيات الفقر والبطالة وعدم توفر فرص العمل على الشباب.
وأوضح أن هذه الظاهرة أصبحت شائعةً في قطاع غزة خلال السنوات الماضية بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها الشباب بسبب الحصار الإسرائيلي والعدوان المتكرر على القطاع، فيما الشباب في مجتمعات أخرى يصبحون مستقلون مادياً عن آبائهم في سنٍ مُبكرة ويستطيعون تكوين أنفسهم وتأسيس أسرهم دون حاجتهم للمساعدة، وهذا ما يجعل فئة كبيرة من الشباب في غزة تشعر بأنها محرومة من الكثير من الحقوق التي يتمتع بها نظراؤهم في مناطق أخرى من العالم.