في أجواءٍ احتفالية تخطف الأنفاس وبصعوبةٍ بالغة تعكّزت "كبيرة العائلة" الثمانينة أم سُليمان النباهين، على كتفيّ ابنها وحفيدها؛ لتهبط إلى عُمق 80 سم حيث أرضيةِ الفسيفساء وتُدقق النظر في تفاصيلها وألوانها الباهتة التي بدأت تتضح رويدًا رويدًا بعد أن مسحها ابنها بإسفنجةٍ مبتلة، فيما صعُبَ عليه شرح عُمر هذه الأرضية التي اكتشفها خلال زراعته وقد نُسِبت للعهدِ البيزنطي، فأخبرها أنَّها موجودة قبل وجود عشرة من أجدادها، وسط نظراتها المذهولة.
هل يخطر في ذهنك أن تحفر في أرضك لتزرع شجرةِ زيتون، فيتعثر فأسك بأرضية فسيفساء تعود للعهد البيزنطي أيّ قبل نحوِ 1800 عام!، هذا ما حدث مع المزارع الخمسيني سليمان النباهين سكان مخيم البريج وسط قطاع غزة، والذي اعتاد فأسه منذ الطفولة على النبش بالأرض، ولكنها هذه المرة خبأت له مفاجأة جديدة من نوعها.
في التفاصيل، كان النباهين قد اشتكى من عدم نجاح بعض أشجاره التي زرعها في وقتٍ سابق، يقول لـ "آخر قصة": "كنت أزرع في منطقة جانبية من أرضي التي ورثتها عن أجدادي، وكل مرة لا تُفلح الزراعة فقررت استكشاف نوع التربة، وبدأت بالحفر برفقة ابني وبعد فترة وصلنا إلى عمق 80 سم وهنا كانت المفاجأة عندما ارتطم الفأس بحجارة صلبة".
في حيّنها، توقعَ سُليمان أنّها حجارة جيرية أو بقايا أوعية فخارية كما يجِد في العادة، ولكن بعد حفرٍ دقيق ظهر جزء من الرسمة بشكلٍ واضح؛ الأمر الذي جعله يبدأ البحث عبر الانترنت ليكتشف أنّ ما رآه هو أرضية فسيفساء، وأنّ الأمر أكبر مما تخيل، فتوجه مباشرة لتبليغ الجهات المَعنية والتي بدأت مهامها بالكشف والمتابعة عن كثب، تبِع ذلك عمليات حفر مجسّات علمية بأماكن متفرقة داخل الأرض لمعرفة المدلولات الحضارية لهذا الاكتشاف والتي تعتبر من أهم عوامل التنقيب الأثري للموقع.
والفسيفساء هو فنٌّ وحرفة صناعة المكعبات الصغيرة واستعمالها في زخرفة وتزيين الفراغات الأرضية والجدارية عن طريق تثبيتها بالبلاط فوق الأسطح الناعمة، بينما يرجعُ لأيام السومريين ثم الرومان، حيث شهد العصر البيزنطي تطورًا كبيرًا في صناعة الفسيفساء وتحديدًا عندما أدخلوا في صناعته الزجاج والمعادن.
17 لوحة دقيقة الصنع، جميلة التكوين تكسو أرضية بمساحة 500 متر مربع، تظهر فيها صور وحوش بتدرجاتٍ لونية زاهية تتعجب من بقائها كل هذا الوقت مُحافِظة على تكوينها، وحينما تنحني للمسها تَجِدُ حجارتها تتنوع بين الأملس والخشِن، وقد تَغطى بعضها بطبقةٍ بيضاء جيرية بفعل عوامل الزمن.
تبتهج ملامح الرجل الخمسيني النباهين وهو يتحدث عن فخرِه بما اكتشف وعن سعادته وعائلته أن أرضهم التي توارثوها تحفظ تحت ترابها إرث فلسطينيّ قديم، يقول: "بعد أن اكتشفت المكان أصبحت أقضي كل الوقت هنا متأملاً بهذه الأرضية الجميلة وأنا أشعر بفخر وعِزة وحبّ أكثر للمكان، أصبحتُ أبيتُ فيه خوفاً من أنّ يُفسده الاحتلال بطريقة ما، فنحن نسكن على الحدود مباشرة وطائرات الاستطلاع لا تُفارق سماء المنطقة".
مزارعٌ آخر في غزة عثر في إبريل الماضي، على تمثال إلهة كنعانية عمره 4500 عام. وقال نضال أبو عيد إنه وجد القطعة الأثرية خلال حراثة أرضه الواقعة في خانيونس جنوب قطاع غزة، في حين قال علماء آثار فلسطينيون إن رأس الإلهة الكنعانية "عنات" يعود إلى 4500 عام، في أواخر العصر البرونزي.
ويعرض تمثال "عنات" - وهي من أشهر آلهة الكنعانيين - في قصر الباشا، ذلك البناء التاريخي الذي يستخدم كواحد من متاحف غزة القليلة. سبق ذلك، بتسع سنوات على الأقل أكتشاف صياد تمثالا برونزيا قديما بحجم رجل للإله اليوناني أبولو عام 2013، لكنه اختفى لاحقًا في ظروف غامضة.
ولمن يفتح كتاب تاريخ غزة لابد أن يَجده غنياً بالتراث، وتُخفي أرضها الكثير من المعالم الأثرية التي تم اكتشافها وأخرى لا تزال مغمورة بفعل توقف أعمال التنقيب منذ أكثر من 15 عاماً على الأقل.
يقول مدير عام الآثار بوزارة السياحة والآثار في قطاع غزة، جمال أبو ريدة، إنّ أرضيات الفسيفساء التي تم اكتشافها هي جزء من أماكن التعبّد التي كانت منتشرة في القطاع على مَر العصور، وهي تؤكد الرخاء والأمن والحريات الدينية التي كانت تنعم بها المنطقة ويُقدّر عددها بأحدِ عشر أرضيّة.
وأكدّ أبو ريدة في سياق حديثه مع "آخر قصة"، على أن الوزارة تعمل على مسارين، الأول هو استملاك الأرض لحرية العمل عليها ويتم هذا الأمر وفق قانون الآثار الفلسطيني الذي يُنظم العلاقة بين الوزارة وصاحب الأرض التي وُجِدَت فيها الآثار الثابتة.
وينص قرار بقانون رقم (11) لسنة 2018 م بشأن التراث الثقافي المادي، في المادة (5) منه، على أن التراث الموجود في الدولة أو في مياهها الإقليمية، أو المكتشف نتيجة أعمال التنقيب المشروعة أو غير المشروعة، أو بطريق المصادفة، يعد ملكاً عاماً لها، باستثناء التراث الذي يثبت أصحابه ملكيتهم له بسند قانوني.
كما نص أيضاً على أن ملكية العقار لا تكسب حائزه حق التصرف بالتراث الموجود على سطحه أو في باطنه، ولا تخوله حق التنقيب عنه إلا وفقاً لأحكام هذا القرار بقانون.
وتحدث أبو ريدة عن أن المسار الثاني يتمثل في التواصل مع المؤسسات التي تُعنى بالتراث وتُموِل عمليات الترميم للأماكن الأثرية كاليونسكو والمدرسة الفرنسية وغيرها من المؤسسات؛ وذلك لعدم قُدرة الوزارة على العمل بمفردِها في ترميم الأماكن الأثرية المُكتشفة والتي تحتاج ميزانيات عالية جداً يصعُب توفرها في ظِلَّ الحصار المستمر منذُ ما يزيد عن 15 عام؛ ما يجعل عمليات الاكتشاف تتم بمحض الصُدفة دون قدرة الوزارة على القيام بعمليات تنقيب مُنظَمة رغم وجود خبراء ضمن طواقمها.