استمعوا إلى تجارب نساء المخيم

انتصرن لحقهن في العمل

استمعوا إلى تجارب نساء المخيم

قبل ربع قرن من الزمن، كانت سطوة الرجل سائدةً في مخيمات اللاجئين الثمانية الموزعة على خمس محافظات في قطاع غزة، بشكل كان يحظر على العديد من النساء العمل باستثناء في سلك التعليم والصحة، بوجه خاص. 

وقد شكل عمل النساء في تلك الحقبة، شكلاً من أشكال التحدي في مجتمع معروف بالمغالاة في العادات والتقاليد. حيث تروي حنان محمد (اسم مستعار) البالغة من العمر سبع وأربعون عامًا، تفاصيل دقيقة حول محاولاتها لإثبات ذاتها رغماً عن الظروف المحيطة.

تقطن حنان في مخيم المغازي وسط القطاع، وهي مطلقة منذ أكثر من سبعة وعشرين عاماً، وكانت قد أجبرت على ترك التعليم والارتباط قسراً بزوج لم يدم حبل الود بينهما طويلاً حتى انفصلا.

من هنا بدأ التحدي، كما تقول حنان: "أنجبت طفلة، وصار من الضروري أن أوفر لها احتياجاتها، في ظل امتناع الأب عن الإنفاق على طفلته، وبالتالي ضربت عرض الحائط بفكر المجتمع وحديث الأهل الرافض لفكرة البحث عن عمل".

وأضافت: "لا يخفى على أحد أن النساء في تلك الحقبة كن من الطبقات الهشة وبخاصة في المخيم، وكانت سطوة الرجل تٌلغي كل طموحهن، وقد واجهت الكثير من العراقيل والتحديات والتي كان من بينها التوبيخ أحياناً والتعرض للضرب أحياناً أخرى، ولكن تجاوزت ذلك بالصبر".

وبالفعل تمكنت من توفير عمل خاص، حتى تسد بعوائده رمق طفلتها التي كانت تزداد احتياجاتها كلما كبرت. وأشارت إلى أنها ظفرت بفرصة تعلم الحياكة، بعدما طرقت أبواب المؤسسات النسوية داخل القطاع والتي يتجاوز عددها في الوقت الراهن 57 مؤسسة نسوية.

واستفادت حنان من الدورات التي كانت تعقدها المؤسسات المعنية لتطوير قدرات المهمشات واللواتي لم يحظين بفرصة إكمال تعليمهن، من خلال تدريبهم على: الخياطة، والتجميل، والتطريز، وغيرها، من الحرف.

تقول حنان وتقاسيم وجهها تعبر عن حجم الأذى الذي أُلحق بها لـ"أخر قصة": "عندما عرضت الفكرة على أهلي، واجهت الكثير من الأسئلة: كيف ستخرجين من البيت؟، وأين مقر العمل؟، وكم عدد الساعات التي ستقضيها في الخارج؟، وقد استطعت إقناعهم، وتعلمت فن الخياطة بعد 6 أشهر من المثابرة والخروج اليومي في ظل ظروف معقدة بالنسبة لي كامرأة مطلقة".

واصطدمت السيدة بأن فكرة العمل في هذه المهنة لم يكن يحقق عائداً كاف لتغطية احتياجات الأسرة، الأمر الذي دفعها لاكتساب مهارة جديدة تتعلق بتعلم مهنة التجميل، وعندما أتقنتها أقامت صالون تجميل رغمًا عن الكم الكبير من اللوم والأسئلة المغلفة بالشك، والتي منها: لماذا اخترت هذه المهنة تحديداً؟ وكيف ستمكثين في محل وحيدة وسط أزقة المخيم؟ .  

تروى حنان الصراع الذي دار بينها وبين عادات وتقاليد وفكر المخيم، قائلةً: "قديمًا لم يكن هناك صالونات تجميل، وإذا تعلمت إحداهن التجميل، فكأنها ارتكبت جريمة بحق الإنسانية(..) النظرات المبهمة التي كنت أواجهها أصعب كثيراً من الأحاديث التي تدور حولي".

وبعد سنوات من تلقي الصفعات كما تقول حنان، استطاعت أن تتجاوز كل الأذى الذي مرت به، وتمكنت من تعليم ابنتها وصولا للمرحلة الجامعية، ولا تزال تواصل عملها إلى الآن.

المعاناة التي كابدتها حنان ولا تزال، في سبيل تحقيق الذات، لم تكن حكرًا عليها، فهناك الكثير من نماذج التحدي التي تلوح في أفق النساء، واللواتي يشكلن 47% من مجموع سكان قطاع غزة.

وعلى الرغم من التطور النسبي الذي طرأ على العقلية المجتمعية، إلا أن التحديات التي تواجه النساء في البيئات المهمشة ما تزال قائمة إلى اليوم، حيث تضطر سمية خليل (اسم مستعار)، إلى تحمل نظرات الجيران التي ترمقها كلما عادات من عملها في ساعات الليل الأولى.

تشير سمية البالغة من العمر خمسة وعشرون ربيعًا، إلى أنها تعمل (12 ساعة) يومياً في أحد المحالات التجارية الخاصة بالنساء في مدينة غزة، وهي خريجة من كلية الحقوق، واضطرت إلى العمل لغاية سد احتياجات أسرتها المعوزة، فهي الأكبر سنًا بين أشقائها وهي المٌعيل الوحيد للعائلة.

ووفقاً للمركز الفلسطيني للإحصاء، فإن عدد الخريجين خلال العام الحالي، بلغ 18.825 خريجاً، فيما شكلت البطالة ما نسبته 47٪.

وتضطر الفتاة سمية إلى تحمل أعباء كبيرة نتيجة ساعات العمل الممتدة، وقالت في سياق حديثها مع "آخر قصة": "بطلع من التسعة الصبح، وبرجع تسعة بالليل، وبلاقي أغلب الجيران قاعدين على أبواب بيوتهم، أنا بكون تعبانة ومجبرة على تحمل نظراتهم، اللي بتقول ليش برا البيت للآن؟".

على أثر ذلك، وتلافياً لنظرات الشك التي ترمقها كلما مرت، تقول إنها تضطر أحيانا لإخبار جاراتها إنها تعود من العمل مثقلة بالكثير من التعب وأنها تعمل طوال ساعات النهار استجابة إلى شروط رب العمل"، مشيرة إلى أن الأمر مؤذ كثيراً لكنها تضطر لدفع التكلفة في سبيل إعالة أسرتها وتحقيق ذاتها.

وتقر سمية، بأن العيش في بيئة المخيم يشكل تحدياً بالنسبة للنساء العاملات، ففيه الكثير من الكبت والإجهاض لحقوق النساء وتقييد حريتهن، رغم أن المادة (9) من القانون الفلسطيني تشير إلى أن "الفلسطينيون أمام القانون والقضاء سواء لا تميز بينهم بسبب العرق أو الجنس أو اللون أو الدين أو الرأي السياسي أو الإعاقة".

وعلقت بموجب تخصصها الجامعي قائلة: "هذه المادة كانت الأولى ضمن باب الحقوق والحريات العامة وهو خير دليل على المساواة الكاملة بين الرجال والنساء، فإذا كان الخضوع أمام القانون سواء بين الرجال والنساء فمن البديهي أنّ الحكم سيكون ضمن إطار تطبيق القوانين بشكل عام بدون تميز، وأن الحقوق والحريات الواجبة للرجل هي نفسها الحقوق والحريات الواجبة للمرأة. "

وتعزيزا لهذا الحق، يقول دكتور علم النفس بجامعة الأقصى بغزة ماهر المجدلاوي، إن للمرأة دوراً كبيراً في المجتمع في مختلف جوانب الحياة، والقول بأن المرأة نصف المجتمع ليس مجرد شعار، وإنما حقيقة، مبيناً أن انتقاص هذا الحق يخلق أذى نفسي كبير بالنسبة للنساء.

وأضاف المجدلاوي: "يؤثر العامل النفسي بشكل كبير على إنتاج المرأة في المجتمع الذي يغلب عليه طابع الذكورية، لذلك يجب تعزيز دورها وتشجيع النساء على العمل وزيادة ثقتها بنفسها (..) إذا تعطلت المرأة تعطل نصف المجتمع وبالتالي يقل التطور الناتج عنها".

وشدد على أهمية أن تشكل الدائرة الأولى القريبة من النساء، مصدر الثقة التي تمنحهم القدرة على تحقيق ذاتها وصناعة مستقبلها، لافتاً إلى أن العادات والتقاليد أحيانًا تضع النساء في دائرة من الاكتئاب الذي يؤثر سلبًا على حياتها وحريتها.

وأكد على ضرورة أن تنتزع النساء حقوقهن واكتساب الثقة بقدرتهن على تحقيق أحلامهن، من خلال العمل والثبات أمام العقبات التي تواجهها خلال مسيرتها العلمية والتعليمية.