قد يبدو من غير المنطق التساؤل عن هموم أهل غزة وكيف لقلوبهم أن تحتمل تكالب المآسي والنكبات ما بين فقر وحصار وحروب متكررة كان آخرها عدوان الأيام الثلاثة (5-7 أغسطس) التي راح ضحيتها 47 شهيد من بينهم 15 طفلاً لكل منهم همه وحكايته التي لم يخبر أحد بها.
يختنق صوت وليد الفرام والد الطفل "أحمد" الذي سقط شهيداً رفقة عدد من الأطفال في مخيم جباليا قبل أيام، فلم تسعفه الكلمات ولم يكن لديه سبيل للتعبير والبوح سوى القول: "أحمد شهيد الوطن وخاطرنا واحد، والكلمات لا تسعفني، خليها بالقلب يا عمي".
قلة فرص العمل وانعدام الدخل في القطاع دفعت والد "أحمد" لطلب الحصول على تصريح عمل في الداخل المحتل، كما آلاف المواطنين العاطلين عن العمل في غزة، لتحسين أوضاعه الاقتصادية وظروف عائلته المكونة من 8 أفراد أكبرهم الشهيد أحمد 17 عام.
لم يكن يعلم الوالد أن عمله لتوفير لقمة العيش ستمنعه من إلقاء النظرة الوداع الأخيرة على جسد ابنه البكر، حيث أغلقت جميع المعابر خلال العدوان، ولم يسمح له بالدخول رغم التنسيقات الثلاثة التي قدمتها العائلة للجهات المختصة من أجل محاولة السماح له بالدخول، لمواراة جسد أبنه الثرى، ومشاطرة زوجته هم الفقد الذي حل عليها بفقدان فلذة كبدها.
لم يسعف الوقت والد الشهيد "أحمد" أن يعين له مدرساً خصوصياً لمادتي الرياضيات واللغة الإنجليزية، كما طلب منه بكره على استحياء فاستشهد قبل أن يلتحق بالفصل الثاني عشر، "التوجيهي" حيث من المزمع بدء العام الدراسي الجديد خلال أيام.
يشير الأب إلى أن أبنه كانت ينتظر دراسة الثانوية العامة بفارغ الصبر، من أجل تحقيق حلم النجاح وإدخال الفرحة على قلوب الأسرة، وبخاصة بعد تأثره الشديد بنجاح طلاب الثانوية، هذا العام وأجواء الفرحة التي انتشرت في بيوت المتفوقين قبل أسبوعين من اندلاع العدوان.
وفي الوقت الذي يتحضر فيه طلاب المدارس الحكومية لبدء العام الدراسي، نعت مديرية التربية والتعليم في شمال قطاع غزة، الطالب "أحمد الفرام" أبن مدرسة خليل الرحمن الثانوية الحكومية للبنين، الذي ترك لرفاقه مقعداً شاغراً داخل الفصل.
والد "أحمد" تملك الخوف قلبه ولم يتوقف عن مطالعة الأخبار ومراقبة الصور وقراءة تفاصيل كل ما تقع عليه عينه منذ بداية العدوان الأخير على غزة، وخاصة أن الحواجز أبعدت بينه وبين عائلته في ظرف صعب كهذا.
ربما احتمل الرجل كافة المشاهد التي رآها عن العدوان الحاصل، غير أن قلبه لم يحتمل صور بكره التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن ذاع نبأ استشهاده، وفقد الوعي على أثر ذلك، وقام زملاءه في العمل بنقله إلى المستشفى لتلقي العلاج.
24 ساعة مرت كأنها دهر طويل بقسوتها وألمها، حيث تابع الأب جنازة طفله عن بعد من خلال أقاربه وإخوانه وكل من حضر نقلاً بالصور والفيديو، بعدما ضاقت به سبل الوصول.
بعد يوم من استشهاد "أحمد" وإعلان الهدنة وصل الوالد إلى بيت عزاء ابنه ليغشى عليه مجدداً، بعد أن أيقن أن استشهاد طفله حقيقة ثابتة وليست مجرد كابوس. يعيشه.
أمام قبر طفله يقف الأب محاولاً التماسك يرش الماء وأزهار الورد، ويدعو له بالرحمة والمغفرة. بعدما كان يكد من أجل أن يساعده على إكمال مشواره التعليمي، مشيراً إلى أنه أقصى طموحه الآن هو أن يطبع قبلة على وجنتي أبنه وبضمه وداع إلى صدره للمرة الأخيرة.
عبر حسابه على فيسبوك، نشر الشهيد "أحمد" المكنى بـ"أبو الوليد" منشوراً فكاهياً: "اذا اجا صاروخ فوق داركم اوعى تطلع من الدار انتظر الـF16"، وقد تبدو تلك مفارقة مؤلمة أنه كان ينظر بعين السخرية لكل ما يدور حوله من عدوان. غير أن الطالب "أحمد" فارق الحياة بعدما أصيب بقصف صاروخي أمام منزله، برفقة ستة آخرين من جيرانه.