أنا سعاد حسونة، أبلغ من العمر 18 عامًا، وتخرجت قبل أيام من الثانوية العامة بمعدل "94 %". كانت الفرحة تعم أرجاء منزلنا البسيط، فرحة العائلة والأقارب والجيران، بتفوقي الذي أهلني لتحقيق حلمي بدراسة طب الأسنان.
لم تمر سوى بضعة أيام على هذه الفرحة، حتى شنت طائرات الاحتلال غاراتها على أنحاء متفرقة من القطاع، انشغل الجميع في الأحداث الجارية، والتخوف من استمرار العدوان لأيام طوال لم يكن أحدًا مستعدًا لعيشها بعد العدوان الأخير الذي عايشناه في قطاع غزة قبل أقل من سنة ونصف.
كانت الساعة التاسعة تقريباً من مساء يوم السبت 6 أغسطس، حيث اجتمعنا أنا وأفراد عائلتي حول سفرة العشاء وسط الغرفة الوحيدة في منزلنا الصغير والذي لا تتجاوز مساحته الـ 60 مترًا مربعًا، والذي يتوسط حي "الشعوت" المكتظ بالسكان شرق مدينة رفح جنوب قطاع غزة. وتبادلنا الحديث حول قصف الاحتلال الإسرائيلي للقطاع.
كُنا ما زلنا على طاولة العشاء، أبي وأمي، وأنا وأشقائي، تحدثنا عن المجازر البشعة التي ارتكبت بحق المدنيين وخاصة الأطفال، وبينما نحن كذلك صدرت فجأة أصوت انفجارات ضخمة هزت منزلنا المسقوف بألواح الصفيح، في لحظة واحد تغير كل شيء، المكان أصبح موحشاً بالظلام والصراخ والدماء والركام الذي يملأ المكان.
غطى الركام جسدي والآخرين، لم أعد قادرة على التحرك والهرب، لا أعلم أفراد عائلتي ماذا أصابهم، هل هُم أحياء؟ أم ...؟. مازلت على قيد الحياة، أسمع أصوات سيارات الإسعاف والدفاع المدني وسط المكان، على الأغلب يحاولون إزالة الركام من فوق أجسادنا، قد نخرج أحياء إن سارعوا برفع الدمار عن أجسادنا النحيلة.
أربع ساعات متواصلة أو أكثر قليلاً، استمر عمل الدفاع المدني في محاولة انقاذي وعائلتي والعائلات المجاورة لنا، جميعنا كنا في الأسفل، تحت الأرض أو بمستواها والدمار يكسونا. تم انتشالي بإصابات وجروح متوسطة في مختلف أنحاء جسدي، ونُقلت عبر الإسعاف إلى مستشفى الأوروبي بخانيونس جنوب القطاع، أنا ومصابين آخرين.
هناك تلقيت العلاج، ومن ثم بدأت بالبحث عن أفراد عائلتي، لأجد والدي مصاب في حالة خطيرة، كما شقيقي محمد، فيما باقي أفراد العائلة مصابون إصابات مختلفة، لم يكن أمامنا سوى الدعاء لهم وسط حالة من البكاء والصراخ والخوف. الخوف الذي هز أجسادنا من الداخل والخارج وكاد يقتلنا.
لم أكن أعلم أنّ شقيقي محمد قد استشهد لإصابته الخطرة منذ اللحظات الأولى، حيث علمت بذلك صبيحة اليوم التالي، إنه خبر مؤلم كثيراً فهذا فراق أبدي بعد جلسة عشاء عائلية، كان من المفترض أن ننعم خلالها بالأمن والسلام كباقي عائلات العالم.
كان بيتنا الصغير، وعلى الرغم من بساطته إلا أنه يجمعنا سويًا، كُنا ننام في غرفة واحدة، ونجتمع مع بعضنا في الغرفة الأخرى، منزلنا الذي كان مليء بالذكريات صار خرابةً.
سرق الاحتلال الإسرائيلي أعز ما نملك، الشقيق والمنزل، والفرحة والذكريات، وحاول سرقة أرواحنا جميعًا كي يقتل أحلامنا، إلا أنني عازمة على تحقيق حلمي والتفوق في دراسة طب الأسنان.