مجازاً نقول، إن غزة تصدر الفخار في حقائب المسافرين وتستورد البلاستيك بواسطة حاويات النقل عبر الموانئ. كما أننا مجازاً نقول إن الفخار يسافر والغزيين محاصرون منذ 15 عاماً.
وإن كان من الجائز في اللغة استخدام المجاز، فمن غير الجائز ألا تكون رحلة الغزي إلى خارج حدود القطاع الممتد على مساحة 365 كم مربع، غير متضمنة زبدية فخار مغلفة بعناية فائقة ضمن حزمة أمتعته.
الغزيون تفصح حقائبهم عن جنسيتهم قبل عرض جوازات السفر على سلطات المطارات. في الغالب إذا لم تحدث الحقائب طنيناً عبر جهاز التفتيش، يفصح التفتيش اليدوي عن المحتوى "الملغوم"، وكثيرا ما تكون النتيجة.. "آوه.. هذه زبدية فخار، يبدو أنك فلسطيني".
يقول محمد زاهر وهو فلسطيني مقيم في دولة الكويت، الزبدية ليست مجرد طبق من الفخار، ولكنها الشيء الوحيد الذي يعطينا الفرصة لاستذكار نكهة الأمهات في صنع الطعام، وتحديداً سلطة الخضار.
وعبر زاهر بقول مختلط بين الجد والهزل، في وصف واقع حركة الأفراد التي يقيدها الحصار على معابر غزة، "الفخار قد يملك رفاهية السفر ودخول المطارات أكثر ما يملكها المواطن الغزي نفسه، ولكنها برقية الحنين التي لا يمكن التخلي عنها كمغتربين".
هذا الحنين، انتقل عبر الخط الهاتفي في اتصال جمع بين المغترب الفلسطيني علاء حماد ووالدته التي تستعد لمغادرة القطاع، من أجل لقاء ابنها المقيم في دولة الإمارات العربية. تسأل الأم: "ماذا ترغب في أن أحمل لك من الأشياء؟، فيرد الابن: يكفي زبدية فخار.
ويعبر علاء الذي غادر القطاع بعدما عجز عن الحصول على فرصة عمل، قبل 7 سنوات، عن حنينه قائلاً: "ماذا يحتاج المغتربون غير رؤية أحبابهم واشتمام عبق بلادهم.. تناول الطعام في زبدية الفخار له نكهة لا توصف، هي نكهة لا يعرفها أحد مثل الفلسطيني". يضيف الشاب ضاحكاً: "سبع سنوات من الغربة لم اذق طعماً لسلطة الخضار، لذلك طلبت من أمي اصطحابها معها في رحلتها".
طبق الفخار، أو الطبق "النجم" إن جاز تسميته عند الغزيين، تعود صناعته إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وهي من الصناعات التاريخية اليدوية التي تكافح من أجل البقاء، ويعرف بأنه واحد من أهم الصناعات التراثية الغزية التي ازدهرت على مر العصور، ولكن اضطر عدد كبير من أصحاب المفاخر إلى إغلاقها بعد تدهور الأوضاع الاقتصادية في القطاع.
ورغم إغراق الأسواق المحلية بالمنتجات الزجاجية والبلاستيكية المستوردة من الصين وتركيا وغيرها، إلا أن الزبدية الفخارية حافظت على مكانتها لدى شريحة عريضة من الغزيين. علماً أن 8 مصانع من أصل 50 مصنعاً لا تزال تعمل في غزة، بفعل تعقيدات الحالة السياسية والاقتصادية.
ولا يعد من المبالغة القول، إن ما من مائدة سفرة في غزة تخلو من هذا الطبق، فهناك أسر تستخدمه في تقديم الفول، وأخرى تعتمده طبقاً لتقديم سلطة الخضار الحارة، وفريق ثالث يستخدمه في تقديم سمك الجمبري. ومؤخراً استحدث باعة الذرة على شاطئ بحر غزة، شكلاً جديداً لتقديم الذرة بالفخار الذي يتميز بقدرته على تحمل الحرارة، وأصبح يطلق عليها "زبدية الذرة".
هذا الطبق الطيني الأشهر والأبسط بين المنتجات الفخارية، تختلط مكوناته بعرق العاملين فيه خلال رحلة صناعته، والتي تمر بعدة مراحل، يشرحها سيد عطا الله (43 عاماً)، أحد أصحاب ورش الفخار في قطاع غزة.
وقال عطا الله إن أول الخطوات في هذه الصناعة، تبدأ بجلب الطين وتنقيته وفلترته من الشوائب ليصبح صالحا للاستعمال، ومن ثم غمره بالماء لفترة من الزمن، وبعد ذلك يخضع لعملية تجفيف، تمهيداً لعجنه.
وأوضح أنه بعد أن يصبح الطين جاهزاً، تبدأ عملية التشكيل من خلال الدولاب بالأشكال المطلوبة مثل الزبدية أو الزير أو أَصَائِص الزراعة. وصولا إلى دخوله مرحلة التجفيف بتعريضه للهواء، ومن ثم وضعه داخل فرن خاص بدرجة حرارة من 300 الى 400 درجة مئوية، وبعدها تصبح جاهزة للاستعمال.
ويعاني أصحاب ورش الفخار والتي يطلح عليها محلياً بـ"المفاخر"، بحسب عطا الله، جملة من الصعوبات، يأتي في مقدمتها غلاء الطين الصلصال، إذ تتراوح سعر عربة الطين من (600- 700 شيكل)، فيما كانت التكلفة قبل نحو 4 أشهر من الآن، قيمتها 200 شيكل.
ولا تتوقف الصعوبات عند حد الغلاء، حيث يشير عطا الله الحاصل على شهادة في إدارة الإعمال، إلى وجود أنواع من الطين ممزوج بالرمل، وهو أمر يؤدي إلى إفساد صناعة الفخاريات، مبيناً في الوقت نفسه أن أزمة انقطاع التيار الكهربائي بشكل يومي، يزيد من تعقيدات العمل.
وختم عطا الله حديثه، بقول ممزوج الحزن "تجاهلنا شهاداتنا الجامعية وعملنا في هذه الحرفة الموروثة، من أجل الحفاظ على التراث من الاندثار، غير أن الظروف المحيطة تفسد علينا متعة العمل".