تلك السيدة صاحبة الوشاح الأبيض والبشرة الخمرية التي كانت تأتي صباحاً من بلدتها الزراعية بيت لاهيا شمال قطاع غزة، وتتنقل بأوعية ممتلئة بورد القرنفل الأحمر والأصفر أمام أبواب المدارس في يوم الأم، لبيعه إلى الطلبة، وبفارق 15 عاماً، لا نعلم في الحقيقة إن كانت على قيد الحياة.
غابت عن الأنظار، وتلاشى صوت غنائها "يا بدع الورد يا جمال الورد"، ذلك بعد اختفاء مهنتها عن الأسواق الغزية بفعل ممارسات الاحتلال، والحصار المتواصل للعام الخامس عشر على التوالي، ليحول القطاع من مصدر إلى مستورد للورد.
وبلغت المساحة المخصصة لزراعة الورود في قطاع غزة نحو 1200 دونما (أي ما يعادل 3.2% من مساحة القطاع)، تزرع بأشجار الورد المصنفة من ضمن أفضل الأنواع عالمياً، وهي مقسمة بين شمال القطاع وجنوبه، وتنتج بكميات هائلة يصدر منها ما يقارب 50 مليون زهرة سنوياً، إضافة لحالة من الاكتفاء والانتعاش في أسواق غزة.
ويمكن وصف المرحلة الآنفة بأنها "الذهبية" بالنسبة لهذا المحصول، وقد امتدت من العام 1994 -2004، فيما بدأت المساحة بالتراجع إلى 120 دونما عام 2006، لينتهي عهد تصدير ورود غزة مع آخر 5 ملايين زهرة صُدرت عام 2012.
ووفقاً لإفادات مزارعين، فإن تقليص مساحة الورد في غزة يعود لأسباب عديدة، أهمها تضييقيات الاحتلال الإسرائيلي ومنعه تصدير الزهور خارج القطاع، الأمر الذي أدى إلى إلغاء المنحة "الهولندية" لمزارعي الورد، والتي كانت تتكفل بمهمة تصدير الأزهار الغزية للأسواق الأوروبية، إضافة إلى أن أزمة شح المياه العذبة أثرت سلباً على هذا المحصول.
وبالرجوع أكثر لذاكرة الغزي المكتنزة تجد أن السيدة بائعة الورد ليست هي الوحيدة الذي غابت عن المشهد الاقتصادي الغزي، امتد الأمر إلى مزارع القرنفل التي توزعت جنوب مدينة رفح أقصى جنوب قطاع غزة، والتي كانت وجهة للرحلات المدرسية قبل عام 2012 وتقلصت مساحتها، لتصل حالياً إلى 20 دونما فقط، وهي مساحة يقول مزارعون إنها بالكاد تكفي لسد حاجة القطاع في مواسمه الرئيسية كيوم الأم ويوم الحب.
ثمانية دونمات تحوي عشرة أنواع مختلفة من الزهور يزرعها أبو كريم أبو دقة في مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة تنتج ما يزيد عن ألف زهرة يومياً وتغطي جزءا كبيرا من حاجة السوق في الأيام العادية، في المقابل لا يمكنها تغطية الطلب المضاعف في المناسبات الرئيسية.
رغم ذلك، لم يستطع أبو دقة اتخاذ قرار بزيادة إنتاج شتلات جديدة في ظل تعقيدات الحركة التجارية على المعابر، وانعدام القدرة على التصدير، بل يضطر احياناً لإتلاف ما يقارب 500 زهرة بشكل شبه يومي، لعدم قدرة السوق المحلي على استيعاب الكميات المنتجة.
واشتكى أبو دقة في سياق حديثه مع آخر قصة من تقصير وزارة الزراعة في البحث عن أسواق لتصريف ورود غزة، متسائلاً: "لماذا لا تعمل وزارة الزراعة على إيجاد أسواق جديدة لتصدير ورد غزة وزيادة انتاجه كما السابق، أسوة بمحصول الفراولة مثلاً؟"
وبحسب أدهم البسيوني المتحدث باسم وزارة الزراعة في قطاع غزة، فإن القطاع فقد قيمة اقتصادية كبيرة بفقدان محصول الورد، خاصة أنه كان يستوعب قطاعا واسعا من العمال يتجاوز عددهم أربعة آلاف عامل، كانوا منخرطين في خط إنتاج الورد، بدء بعملية الزراعة، إلى التبريد، مرورا بالتغليف، وكذلك صيانة الدفيئات، مبيناً أن تلك الدونمات كانت مخصصة للتصدير، وبمجرد منع الاحتلال تصدير الورود، بدأ المزارعون بالاستعاضة عنها بمحاصيل أخرى.
وأوضح المتحدث باسم وزارة الزراعة، أن محصول الفراولة هو من محاصيل الفاكهة التي يمكن تصريفها في السوق المحلية في حال اتخذ الاحتلال قرارا بمنع التصدير، غير أن الزهور كمنتج ينظر له على أنه نوع من الترف، لا يمكن تسويقه محلياً، ولذلك يتكبد المزارع خسائر مضاعفة عندما يمنع تصديره.
وأشار البسيوني إلى أن وزارته، تحاول إبقاء محصول الورد حياً قدر المستطاع في قطاع غزة، ومحاولة تحقيق الاكتفاء الذاتي في السوق المحلية.
الشاب ابراهيم ربيع أحد أصحاب محلات بيع الورد في غزة والذي يعمل في مجال تنسيق الزهور منذ 9 سنوات، اشتكى من وجود شح في أنواع عديدة من الزهور الطبيعية التي يحتاجها السوق، مشيرا إلى أنه يستعيض عنها بالورد الصناعي.
وقال ربيع، إن الطلب على الأزهار الصناعية ازداد بنسبة 80%، مقابل الورد الطبيعي، وبخاصة في مناسبات الأفراح، نظراً لديمومته وتعدد أنواعه وأشكاله.
يتقاطع قول ربيع، مع المستورد الزهور الصناعية إسحاق العوضي، والذي ألمح إلى زيادة كبيرة على طلب الورد الصناعي خلال الفترة الحالية، إلى جانب الزهور الطبيعية المجففة والتي تستخدم في تنسيقات الأفراح وأعياد الميلاد.
في المقابل أشار العوضي، إلى ارتفاع قيمة مصاريف الشحن إلى نحو أربعة أضعاف، حيث يصل سعر شحن "الكونتينر" الواحد ثلاثة عشر ألف شيكل.
بدوره، دعا الخبير الاقتصادي معين رجب، إلى تدخل المؤسسات الأهلية والحكومية التي تعنى بالزراعة لتحسين وضع زراعة الزهور في غزة بعد التدهور الأخير الحاصل في زراعته، وبخاصة بعد عام 2012 وهو أدنى مستوى وصل إليه إنتاج الزهور في غزة.
وأوضح رجب أن غزة كانت أهم مصدر للزهور في العالم بسبب خصوبة تربتها واعتدال مناخها، مشددا على أهمية دعم هذا المنتج وإعادة انعاشه على الأقل في السوق المحلية، خلال تخفيض ثمنه ونشر ثقافة وجوده، إضافة للبحث عن سبل لتصريفه خارجياُ.