عند المرور صباحًا بمخيم الشاطئ النائم على هدير الموج، ربما تتردد بالولوج في أزقته الضيقة، خشيةً من التيه مثلًا، أو أن تجد نفسك فجأة في منتصف منزل أحدهم فالمباني متشابكة يوصلها خيوط كهرباء أشبه بشبكة عنكبوت ضخمة.
التردد بالدخول إلى مخيم الشاطئ -وهو واحد من بين ثمانية مخيمات في قطاع غزة أُنشأت في أعقاب نكبة العام 1948- حسمه هيئة طفلتين بعمر السبع سنوات، ترتديان تنانيرَ وردية اللون وفي أيديهن أوراق عدن بها للتو من المدرسة، إنها شهادات نهاية الفصل الدراسي للعام 2022.
هاتان الطفلتان كانتا دليلا لاقتحام الزقاق الأول المؤدي إلى الشاطئ بتعرج يمتد لأكثر من 200 متر تقريباً، وسط هذا التعرج يجلس أطفال آخرين وسط مساحة لا تتجاوز الـ 30 متراً تطل عليها أبواب صدئة، يصطلح عليها الحارة.
وعلى غير عادتهم يرتدي الأطفال ملابس جديدة اليوم، تقول فاطمة أحمد (42 عاماً) وهي واحدة من أصل 82 ألف نسمة يقطنون المخيم، متهكمة على هيئات أبناء الجيران "يا ريت كل يوم في توزيع شهادات علشان تضلوا لابسين لبس حلو".
بعضهم قد صفف شعره وآخرون احكموا إغلاق أزرار القمصان على الرقبة، تقول فاطمة وهي ترمقهم وتبتسم: "هذا الانضباط مرتبط بالأعياد والمناسبات عادةً، وفي غيرها من الأوقات تجدهم يلعبون هنا وهنا ويقفزون من زقاق إلى آخر".
في الخلفية كان واضحاً أن الأطفال يتسألون فيما بينهم عن نتائج العام الدراسي، وكيف حصّلوا على تقدير "الجيد" و"الممتاز"، وحدك ستبتسم لهم فيستغربون، وربما يشكون في أصل مهمتك.
كان الصبية يمشون بتفاخر "الرجال الكبار"، وكلّ منهم يحدث الآخر عن بطولته التي حققها داخل شهادته -وإن لم تكن درجته عالية في الأساس-، فجأة ستضيع الطريق وتجد نفسك بين حائطين اسمنتيين، ورأسك في المنتصف تمامًا بين شباكين خشبيين محكمي الإغلاق عن اليمين والشمال، لتتساءل في عقلك حينها: "يا للكارثة إن احتدم النقاش!".
على المار بأزقة المخيم -أيضًا- أن يكون حذرًا أن تصيبه برك المياه المتراكمة بين شقوق الأزقة نتيجة ترهّل البنية التحتية، وقد انعكست الشمس على وجهها بلون ذهبي، والجميل أن الجدران ليست إسمنتية صامتة، فكلّ حائط يعبر عن نفسه بطريقته، منهم ما رُسم عليه مئذنة وكعبة، ومنهم من نطق بعبارات المباركة والترحاب من قبيل: "أفراح آل.."، "ألف مبارك لعائلة العريس"، "حجٌ مبرور.."، وغيرها من عبارات الفرح، ولمّا يخلو من العشاق -أيضًا- الذين كتبوا أحرف أسمائهم الأولى على استحياء قبل أن يقبض عليهم فضول المخيم.
الممر الواحد يؤدي إلى ممرٍ أضيق ثم ينتهي إلى فسحة صغيرة بين جَمع البيوت المتعانقة، هناك حيث قابلنا بنتًا في العاشرة من العمر ترتدي "الأفرهول" الكستنائي وتصنع بشعرها كعكة للأعلى، وقد جلست تضعُ يدها على خدها وتنظر إلى الفراغ المحاصر أمامها.
عند سؤال الطفلة عن واقع النتيجة قالت بشيء من التردد: "جيد"، وعندما طلبنا تفحص شهادتها، وقَفت بحيرة وهي تناولنا الورقة، ورموش عينيها الكثيفة تلتصق بحاجبيها، وقد كان مدهشاً أنّ المادة الوحيدة التي حصّلّت بها درجة "الامتياز" كانت مادة التكنولوجيا.
نتيجةٌ كانت محفزة على تقديم سؤال ممزوج بين الجد والهزل: "لا بد وأنك محترفة أذا في استخدام الحاسوب؟"، لكنّها أجابت وقد باتت عيناها تنظران إليّنا ورأسها كاملًا إلى الأعلى: "ما عنا كمبيوتر". ردّ كان كفيلا أن ينزلنا إلى أرض الواقع، هنا حيث عدد ساعات قطع الكهرباء يفوق ساعات مجيئها، وأكثر من 90% من السكان يعتمدون على المساعدات الإغاثية التي تقدمها وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).
وددنا لو نكمل لحوار مع الطفلة، لكن صوت أمها الذي خرج فجأة من داخل البيت: "حلاا.." جعلها تدير ظهرها بعدما استعادت ورقتها، تاركة إيانا نراقب خطواتها المتثاقلة إلى الداخل.
لا يوجد بيت يشبهً الثاني هنا دخل مخيم الشاطئ، وهو بالطبع حال باقي المخيمات الممتدة على مستوى محافظات قطاع غزة الخمس، فكلٌّ بنى منزله بحسب ما ملك من موارد، فمنهم من جعل المدخل من الرخام، ومنهم من اكتفى بدرجتين أو ثلاث درجات من الإسمنت فقط، ومنهم من فرش حصيراً فوق الأرضية الخرسانية، ومنهم من اكتفى بجعل الباب فوق عتبة رمادية متآكلة.
يعلق طفل يدعى أمجد في ربيعه الثامن قدميه على عتبة ترتفع قليلاً عن مستوى الشارع، يحمل في يده قطعة خبز محشوة بالفلفل الأحمر، اقتحمنا عالمه وسألناه بابتسام عن معدله، فقال إنه حصل على تقدير "متميز" وهو تصنيف يفوق الـ"ممتاز" أضيف حديثاً إلى قائمة التقديرات في شهادات مدارس "الأونروا" والبالغ عددها 274 مدرسة، تقدم الخدمة لأكثر من 278 ألف طالب وطالبة على مستوى قطاع غزة.
وبالعودة إلى أمجد صاحب التقدير المتميز، الذي مد يده ليعرض علينا مشاركته في تناول طعام إفطاره، قال إنه يحلم بأن يصبح مهندس من دون مبرر لهذه الرغبة، لكنه ربط تحقيق هذا الحلم بحصول والده عن وفرة في المال، إذ يشير الطفل إلى أنه الأب متعطلا عن العمل.
غادرنا الطفل وجملة أحلامه، وحثينا الخطى للرجوع، غير أنه أثارنا ترحاب الجميع بنا، بسبب أو بدون سبب: بائع الفلافل، الفتيات اللاتي يلعبن "الحجلة" وقد قنصن أوسع مساحة ممكنة بين أربعة بيوت، الصبيان الذين جلسوا في إحدى الزوايا يُركّبون أخشاب طبقٍ طائر ليطلقوه من أمام الشاطئ بحلول "العصر".
الغريب في أمر المخيم، أنه لا توجد بيوت موصدة، كل الأبواب مواربة، وكأنها تمنحك ربع دعوةٍ لاحتساء الشاي مع أهل البيت في هذا الصباح الصيفي، والأغرب أنّك لن تتوه -كما تظن- ولن تبلعك الأزقة، وإن حدث سيدرك السكان أنك ضللت الطريق لا أكثر، وسيدلونك عليه، فكل الطرق تؤدي إلى الشاطئ.