تحت سماء مدينة غزة وعلى رمال شاطئ البحر، وجد حسن خليل (28 عاماً) متنفساً وحيزاً للترفيه والترويح عن نفسه حيث يتقاسم وأصدقاؤه الأربعة الظروف المعيشية والاقتصادية الصعبة وأنفاس النارجيلة أيضا.
ووسط سهرة استثنائية، تبرع حسن وهو عامل في ورشة ويتقاضى أجراً يومياً بقيمة 20 شيكل، بدعوة رفاقه لتناول عَرانيس الذرة المشوية التي تفوح رائحتها، مع نسمات الهواء المنعش. وقدمها لهم ضاحكاً "أعيش وأعزمكم ان شاء الله ما حد حوش ".
لم يحالف "حسن" الحظ في الحصول على وظيفة ثابتة رغم حصوله على شهادة الدبلوم المتوسط في السكرتارية، ولكنه نجا- بأعمال يومية متقطعة بين حين وحين في غير تخصصه- من الغرق في البطالة والتي تزيد نسبتها في صفوف الحاملين لشهادة الدبلوم المتوسط في قطاع غزة، عن 53%، حسب مركز الإحصاء الفلسطيني.
لم ينس الشبان الخمسة همومهم، رغم أنغام أم كلثوم المنبعثة من سماعات هاتف أحدهم. يطلب حسن من صديقة خفض صوت الموسيقى ثم يقول "أنا شاب خريج ليس لدي ما يعينني على هذه الحياة لتكوين نفسي رغم أني لا أتوقف عن البحث والمعافرة.. الحمد لله على نعمة البحر والرفقة الحلوة".
يشير الشاب، إلى أنه لا يملك دفع قيمة فنجان قهوة في ردهات المطاعم والفنادق المطلة على الشاطئ ولا حتى تلك الأرجوحات الخشبية المتصلة كسلسلة ممتدة على طول كورنيش غزة وتمتد فوقها شبكة أضواء متلألئة، حيث يزيد ثمن حجز الواحدة منها عن (5 شواكل)، لذا يفر هو ورفاقه إلى الشاطئ بعيدا عن الاستراحات المتراصة والتي في الغالب كان يرمز إليها على أنها مساحة لمحدودي الدخل.
وبات من الواضح أن الشاطئ هو الخيار الأنسب للآلاف من الشباب والعائلات في قطاع غزة الذي يمر على حصاره 15 عاماً، وبخاصة خلال الإجازة الصيفية.
تقول الأربعينية أم محمد عبد الله، وهي تمد لطفلها المبلل بالماء ربع رغيف خبز بيتي ليسد جوعه بعد جولة سباحة "البحر أحسن مكان نزوره في الاجازة بندبر حالنا في المواصلات ولما نوصل ما بندفع شيكل واحد، وأنا بحضر كل أغراضي معي من البيت وبنجيب الذرة المسلوقة معنا وبفرحهم بأقل الإمكانيات".
وعلى مفرش مخطط وتحت ضوء القمر، تجلس أم محمد وأطفالها الستة، وتسند ضوء (LED) مشغل بالبطارية على عمود خشبي مغروس في الرمل، يستكشفون به وجوههم وأغراضهم. يقطع حديثها بين الحين والآخر أسئلة المتسولين والباعة المتجولين على الشاطئ، فبعضهم يحمل صندوقاً بعصير "البراد"، وآخر يحمل صينيةً مكدسة بأكياس الترمس المعبئة، وثالث جاء يحمل على وسطه وعاء معدني يفيض بالفول السوداني (الفستق)، والحبل على الجرار.
أما المتسولون، فقد توافدوا متقاطرين فيما لو كانوا رفاق سفر تائهين، يبحثون عن ضالتهم بين خيمة هنا وجلسة هناك، وبين رواد المقاهي، أغلبهم من النساء والأطفال. وفي كل سؤال كانت تواجه السيدة أم محمد، كان ردها "الله يرزقكم"، ثم تصمت قليلاً وتضيف "الله يكون بعون الناس".
ويشهد بحر غزة خلال صيف هذا العام ازدحاما واضحاً بشاطئه والكورنيش الممتد من شماله إلى جنوبه، حيث يجذب المصطافين على اختلاف مستوياتهم، نظراً لأنه المتنفس الأقل تكلفة بين أماكن الترفيه الأخرى المتاحة كالشاليهات مثلاً والتي يقدر عددها بـ 300 شاليه، ويقدر متوسط إيجار أحدها (300 شيكل) خلال الـ 12 ساعة.
وعلى النقيض تماماً لواقع الفقراء الذين وجدوا في الشاطئ ملجأً للهروب من الحر والعتمة، ففي الجهة الأخرى هناك سلسلة من المطاعم والفنادق المتباعدة على طول الشاطئ، والتي تبزغ إضاءتها الملونة المنعكسة وزينة أسقفها من علو.
رواد هذه المطاعم والفنادق، هم في الغالب من أصحاب الدخل المرتفع، نظرا لما تنطوي عليه فاتورة الجلسات (بمتوسط 200 شيكل)، وهي تمثل أجرة أسبوع واحد من أجور العاملين فيها.
تناقض واضح في مساحة ضيقة يمكن لمسه من خلال فنجان قهوة على الأقل، فمقاهي البسطاء تقدم أكواب القهوة المصنوعة من الكارتون بقيمة شيكل واحد للزبائن يرافقها ابتسامة وخفة ظل، أما في المطاعم الفارهة تقدم القهوة في فنجان صيني ناصع على صحن يغطيه منديل ورقي مزخرف، ويقدمه نادل بربطة عنق وبروتكول منمق، وبمتوسط (15 شيكل) للفنجان الواحد.
ولدت ظاهرة الطبقات الاجتماعية نتيجة ظروف اقتصادية صنعها الحصار، وقد خلقت تداعيات سلبية جمة على النسيج المجتمعي، إذ انقسم المجتمع إلى طبقتين: إحداها برجوازية ولا يتجاوز نسبتها 5%، فيما تشكل الكادحة الغالبية العظمى، ويستدل على ذلك بيانات وزارة التنمية الاجتماعية التي تشير إلى أن 85 في المئة من إجمالي سكان غزة يعيشون تحت خط الفقر، وبالكاد يستطيعون توفير لقمة العيش اليومية، وسط انعدام فرص العمل وارتفاع واضح لمؤشرات البطالة.
ووفقاً للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن معدل دخل الفرد في غزة، لا يزيد على خمسة دولارات أميركية، وهذا يجعل السكان دون خط الفقر.
المعطيات الآنفة، تشير إلى طبقة ثالثة (متوسطي الدخل) اختفت بفعل الخصومات التي طالت رواتب الموظفين الحكوميين، والذين غالباً ما يرتبط حضورها إلى شاطئ البحر بسيارة بسيطة تركن إلى جانب الطريق وبحقيبة مفتوحة تحمل كراسي بلاستيكية بعدد أفراد الأسرة. يجلسون على الكورنيش قبالة الشاطئ، وعادة ما يصحبون معهم بعض المسليات والمشروبات الساخنة.