قبل أكثر من خمسة عقود، كانت فتاة فلسطينية تدعى سميرة صيام، تنتظر عودة والدها كل يوم من العمل، حيث كان يعمل سائق شاحنة. وبمجرد وصوله كانت تطلب مجالسته في المقصورة الأمامية.
تلك الطفلة أصبحت اليوم جدة، وذلك الشغف تحول إلى مهنة، وأمضت أكثر من ثلاثين عاماً في العمل كمُدَربة للسياقة، بحصيلة تعليم أكثر من 50 ألف طالب وطالبة.
وقتٌ طويلٌ مضى، ولكن الجدة سميرة (62 عاماً) ما تزال ذاكرتها مكتنزة بالمواقف، إذ تشير إلى أنه كان أقصى طموحها هو امتلاك مفتاح الشاحنة وتشغيلها، وهي في الواقع لم تملك شاحنة إلى الآن، لكنها تعمل على تشغيل شاحنة مدرسة السياقة بشكل يومي خلال رحلات التدريب في شوارع مدينة غزة.
وقالت: "سعيدة بأنني مستمرة في مهنة عائلتي التي توارثناها، لقد حققت الحلم الذي طمحت له منذ طفولتي و الآن لست مجرد سائقة؛ بل مدربة من أفضل مدربي القطاع".
لم يمنع دخول "سميرة" العقد السادسة من العمر، من الاستمرار في مهنتها وشغفها في تعليم قيادة السيارات والشاحنات والتي قضت فيها أكثر من نصف عمرها في مدرسة خاصة بذلك، وقالت "صحتي جيدة الحمد لله وتساعدني على الاستمرار في شغفي في هذا المجال، فأنا دائماً أميل للخيارات الصعبة وأن أكون في مكان قيادي".
بمجرد أن تغلق صيام باب منزلها تترك خلف مقود الشاحنة شخصيتها القوية "الذكورية" كما يصفها البعض، وتُظهر شخصية الأم الحنونة والزوجة الوفية، وتنطلق من فوق عيون الغاز روائح طهيها الزكية التي عُرفت بها عند أقاربها وجيرانها.
وقالت "أنا خارج البيت أتعامل بصلابة، فمهنتي تتطلب قوة الشخصية والتحكم وتعود شخصيتي لطبيعتها عند عودتي لمنزلي وأولادي".
"كيف سواقتي يا أستاذة؟ شو ملاحظتك؟ "أسئلة كثيرة يطرحها سائقي السيارات العمومية على سميرة لمجرد ركوبها معهم، فشخصية المدربة ترافقها في كل مكان وقد تطغى بشكل عفوي في حال شعورها بوجود خطأ ما، تقول "ركبت مع سائق ولم يترك مسافة كافية بين سيارته والسيارة التي توقفت أمامه بشكل مفاجئ، وبتلقائية وجدتني أمد قدمي على دواسة التوقف (البريك) لمنع وقوع حادث سير".
وعقبت على الحالة المرورية في قطاع غزة، بأنها تفتقد للكثير من الالتزام بآداب المرور سواء من السائقين أو المشاة، وهذا يزيد من صعوبة الأمر على المدربين والمتدربين على حد سواء.
"لقد أضاف لي عملي في مجال تدريب السياقة الشعور بالقوة والسيطرة على حياتي بشكل منظم، كما أضاف لي الشعور بالاستقلالية في وقت مبكر من عمري"، قالت صيام، وذكرت أنها هي من علّمت القيادة لأبنائها الذكور الثلاثة، كما تنوي تعليمها ابنتها الوحيدة بنفسها والتي تخرجت حديثًا من الجامعة، "لقد وجدت أن القيادة تمنح الإنسان الثقة بالنفس والاستقلالية وقوة الشخصية، خاصة لدى النساء".
لطالما تلقت صيام العديد من الانتقادات التي اعتبرت أن عملها "ذكوريًا" حكرًا على الرجال، لكنها لم تأبه لهذه الأصوات، لقد قررت أن عليها المُضي في مهنتها، تستند على حب ودعم زوجها وعائلتها.
كثير من الناس يبدون استغرابهم لعدم امتلاك صيام سيارة خاصة بها رغم السنوات الطويلة التي قضتها في مهنة التدريب، لكنها أوضحت أن الظروف الاقتصادية لم تمكنها من التملك، فقد اعتادت على مشاركة زوجها في تلبية احتياجات عائلتها وتعليمهم الجامعي الذي يستنزف العائلات محدودة الدخل.
الجدة سميرة، التي تدربت على قيادة الشاحنة في ثمانينيات القرن الماضي داخل الأراضي المحتلة، تتميز بارتداء الكوفية غطاء رأس، وعن سر هذا الارتباط قالت: "الكوفية هي الزي الرسمي لي والمحبب لقلبي، إنها تحمل رمزية خاصة تشعرني بالفخر، كما أنها نوع من المحافظة على تراثنا الفلسطيني".