95% من مياه غزة غير صالحة للاستخدام الآدمي

95% من مياه غزة غير صالحة للاستخدام الآدمي
95% من مياه غزة غير صالحة للاستخدام الآدمي

على أطراف حي الرمال الشمالي وسط مدينة غزة، يقف إسماعيل عمارة (45 عامًا) أمام خزان مياه بات مسؤول عنه. ينظر إلى المياه المعكّرة الخارجة منه ويقول إنهم يدركون أنّها غير صالحة للاستخدام البشري، لكنهم مضطرون للاعتماد عليها في غسل الملابس والأواني بعد انقطاع المياه عن المنطقة لأكثر من عشرة أيام متواصلة.

وبينما يملأ دلوا لأحد الجيران، يستعيد ما عاشه خلال الاجتياح البري الإسرائيلي في أوج الحرب الإسرائيلية التي اندلعت في أكتوبر 2023 على قطاع غزة، يقول: "في ذلك الاجتياح بداية 2024 كانت المياه مختلطة بالرمل ومتسخة. ومع ذلك اضطررنا لشربها أيامها وتعرّضنا لإعياء شديد، لكن لم يكن أمامنا خيار آخر".

أما ناهد الدهدار، الذي حفر بئرًا في منزله قبل سنوات لتحقيق اكتفاء ذاتي من المياه، يروي بدوره أنّ كل ما بناه اهتزّ منذ اندلاع النزاع. فالقصف المتكرر، كما يقول، أضرَّ بجودة المياه إلى حدٍّ غير مسبوق، ومع ذلك يواصل استخدامها: "على الأقلّ يوجد مياه، مهما كانت".

يشير الدهدار إلى أنّ حي الجلاء وسط مدينة غزة يعيش أزمة حادة في توفر المياه منذ الاجتياح البري الأخير لمدينة غزة في سبتمبر الماضي 2025، بعدما دُمّرت شبكات المياه والصرف الصحي واختلطت المياه الجوفية بالرواسب والتربة والملوثات.

ومع غياب أعمال الإصلاح وتأخر إدخال المواد اللازمة لإعادة تشغيل الشبكات، بات السكان يعتمدون على آبار لم تعد آمنة، الأمر الذي يفاقم المخاطر الصحية اليومية.

ولا تقتصر هذه المعاناة على بضعة منازل متفرقة؛ فالحرب الأخيرة كشفت هشاشة البنية المائية في غزة على نطاق واسع، بعدما دمّرت شبكات المياه والصرف الصحي ودفعت آلاف الأسر، خصوصًا في الأحياء المكتظة ومناطق النزوح، إلى الاعتماد على آبار خاصة لم تعد آمنة. 

وتحوّل هذا الاستخدام القسري إلى علامة فارقة على انفجار الأزمة اليوم، إذ لم يعد الخزان الجوفي قادرًا على تلبية الحدّ الأدنى من الاحتياجات، لا كميةً ولا نوعية، في لحظة تُعدّ الأشد قسوة منذ عقود.

وتنعكس هذه الأزمة مباشرة على صحة الأطفال، ففي مركز إيواء مؤقت في حيّ تل الهوى جنوب غرب غزة، تقول أمّ لطفلين، محمد (5 أعوام) وسارة (3 أعوام) نقلا إلى المستشفى إثر تسمم حاد بعد شرب مياه المركز، ورغم علمهم بأن المياه "غير نظيفة"، لم يكن أمامهم خيار آخر. حسب الأطباء، جاءت الحالة نتيجة مياه ملوّثة، في ظلّ انقطاع خدمات الصرف الصحي وشحّ المياه الآمنة.

هذه الحالة ليست معزولة؛ ففي مستشفى شهداء الأقصى بوسط القطاع، يقول رئيس قسم الأطفال، الطبيب هاني الفليت، إن المستشفى يستقبل يوميًا نحو 300 طفل، بينهم أكثر من 170 مصابًا بطفيلي الجيارديا وحالات جفاف حادة تحتاج إلى علاج وريدي. 

يربط الفليت ذلك مباشرة بتلوّث المياه واختلاطها بالصرف الصحي، محذرًا من أن عودة الأطفال بعد العلاج إلى البيئة ذاتها في مخيمات النزوح تعرّضهم للإصابة مجددًا، وهو ما تؤكده تحذيرات يونيسف التي تشير إلى أن تدمير معظم شبكة المياه والصرف الصحي جعل الأطفال عرضة لأمراض منقولة بالماء تُسجّل يوميًا في مختلف مناطق القطاع.

وفي تصريح رسمي قالت وزارة الصحة الفلسطينية إن نسبة عينات المياه الملوّثة في قطاع غزة ارتفعت إلى أكثر من 25%، ما زاد من المخاطر الصحية على السكان.

وتؤكد تقارير صادرة عن سلطة جودة البيئة والسلطة الفلسطينية للمياه أن تدهور شبكات الصرف والمعالجة أدى إلى تسريب مياه ملوثة إلى الخزان الجوفي، مما يجعل معظم المياه في قطاع غزة غير صالحة للشرب، بحسب تحليل بيئي حديث يشير إلى أن أكثر من 96٪ من المياه ملوثة وغير آمنة.

تبدو الحرب وكأنها جمّدت الحياة في غزة، لكنها، وفق توصيف المختص البيئي نزار الوحيدي، دفعت النظام المائي نحو "تعافٍ سلبي"، أي تعافٍ يبدو في ظاهره تحسنًا، لكنه في جوهره "تعافٍ بُني على خراب". فما يبدو ارتفاعًا نسبيًا في مخزون الخزان الجوفي ليس نتيجة إدارة مستدامة للموارد، بل ثمرة توقّف شبه كامل للأنشطة الاقتصادية والزراعية.

ويوضّح الخبراء أن هذا "التحسن الكمي" لا يعكس وفرة في المياه بقدر ما يعكس انهيارًا في الاستهلاك؛ فالتراجع الحاد في الطلب، خصوصًا في القطاع الزراعي الذي كان يبتلع الجزء الأكبر من المياه، خفّف الضغط على الخزان مؤقتًا، وجعله يبدو وكأنه يتعافى. هذا الارتفاع الظاهري هو في الواقع نتيجة توقف الحياة، لا نتيجة إصلاح بنيوي أو استعادة طبيعية للمورد المائي.

قبل الحرب، كان في قطاع غزة نحو 7500 بئر مياه، موزعة بين آبار زراعية وآبار للشرب ومحطات تحلية، إضافة إلى آبار مخالفة غير مرصودة. كانت هذه الآبار تستهلك سنويًا ما يقارب 220 مليون متر مكعب من المياه، منها 100 مليون للاستخدام الزراعي وحده.

اليوم، ومع توقف الزراعة شبه الكامل، انخفض الاستهلاك الزراعي إلى ما يُقارب 20 مليون متر مكعب فقط، أقلّ من خمس الكمية السابقة. أما استهلاك المياه للشرب، الذي كان يصل إلى 120 مليون متر مكعب سنويًا، فقد تراجع إلى أقل من 100 مليون متر مكعب بفعل ظروف الحرب وتراجع الخدمات الأساسية.

يقول الوحيدي إنّ هذا التراجع في الضخ قريب من مرحلة التعافي من الضخ الجائر، لكنه يصفه بأنّه "تعافٍ غير محمود"؛ لأنه جاء نتيجة انهيار القطاعات الإنتاجية لا نتيجة إصلاحات أو سياسات مائية متوازنة.

ورغم هذا التراجع الكمي، فإنّ جودة المياه تنحدر بسرعة "كارثية"، وفق الوحيدي. فمع توقف محطات الضخ والتعزيل ومحطات المعالجة، باتت مياه الصرف الصحي تنساب إلى الشوارع وتتسرب إلى الخزان الجوفي بشكل مباشر أو غير مباشر. الأخطر، كما يضيف، أن معظم الخيام المنتشرة في القطاع تستخدم حفرًا امتصاصية بديلة لشبكات الصرف، ما يجعل كل حفرة بمثابة بئر تحقن الملوثات في الخزان المعلّق.

بدوره، يؤكد أستاذ العلوم البيئية والبحرية في الجامعة الإسلامية عبد الفتاح عبد ربه، أنّ 95% من مياه الخزان الجوفي غير صالحة للاستخدام الآدمي. ويشرح أن ارتفاع مستويات الملوحة والكلوريد والنترات جعل هذه المياه أقرب إلى السمية منها إلى الصلاحية.

في بعض مناطق شمال القطاع، تصلّ نسب النترات إلى 150 ملغم/لتر—أي أكثر من ثلاثة أضعاف الحدّ الموصى به من منظمة الصحة العالمية (45 ملغم/لتر). أما الكلوريد، فيصل في بعض الآبار إلى 800 ملغم/لتر مقارنة بالحد الآمن البالغ 250 فقط.

هذه المستويات المرتفعة ترتبط، كما يوضح عبد ربه، بأمراض شديدة الخطورة، من بينها متلازمة الطفل الأزرق الناتجة عن نقص الأوكسجين في دم الأطفال، إضافة إلى الفشل الكلوي واضطرابات صحية مزمنة.

ويرى عبد ربه أن الحرب فاقمت الأزمة بعدما توقفت محطات المعالجة غير المبطنة، ما يسمح بتسرب مياه الصرف إلى باطن الأرض، فضلًا عن وجود أكثر من 30 مكب نفايات عشوائيًا تتسرب عصارتها إلى الخزان الجوفي، مما جعله أشدّ بؤسًا مما كان عليه.

يتحدث عبد ربه عن حالة "تصحّر بيئي شامل" تطال قطاع غزة: البحر الذي لم يعد ينتج أسماكه كما في السابق، التربة الزراعية التي تدهورت بفعل ارتفاع الملوحة، والغطاء النباتي الذي تراجع حتى حدود الانعدام. ويرى أن الحديث عن تعافٍ للخزان الجوفي "وهمي"، لأنّ البيئة ككل انهارت بفعل حرب طويلة على قطاع مائي هش أصلًا.

ويشير إلى أنّ القطاع المائي يعيش أزمة مركّبة عمرها نصف قرن، ولا يمكن إصلاحه إلا عبر عملية تمتد لعشرين عامًا على الأقل، بشرط وقف الضخ الجائر ومنع أي مصادر تلوث جديدة.

اليوم، يحصل الفرد في غزة على خمس لترات فقط من المياه يوميًا، مقارنة بـ 100 لتر للفرد في العالم. تتكاثر الآبار العشوائية بلا رقابة، والمياه التي تصل إلى المنازل، وإن خضعت للترشيح، "مفلترة لكنها ملوثة"، حسب تأكيد الخبراء.

وفي ظلّ غياب سياسات بيئية متكاملة، تبدو التدخلات الحالية سطحية “تعالج النتائج لا الأسباب”، كما يقول الوحيدي، ما يهدد بانهيار بيئي طويل الأمد.

وهكذا تجد غزة، التي أنهكها الضخّ الجائر لعقود، نفسها أمام تعافٍ قسري فرضته الحرب؛ تعافٍ ينخفض فيه الضخّ لكن ترتفع الملوثات. وفي قلب هذه الأزمة، تقف الأسر الفقيرة والنازحون في الخيام بوصفهم الفئة الأكثر تعرضًا للخطر، إذ لا يملكون بدائل آمنة ولا قدرة على شراء مياه محسّنة أو نقلها.

أما الأطفال فهم يدفعون الثمن الصحي الأثقل، في ظل مياه مفلترة ظاهريًا لكنها ملوثة في جوهرها، كما يؤكد الخبراء. ومع غياب سياسات بيئية فاعلة، تتحول أزمة الخزان الجوفي من مسألة موارد إلى قضية وجودية تهدد حياة مليوني إنسان، معظمهم يعيشون فوق أرض عطشى وتحتها ماءٌ قد يكون أخطر من الظمأ نفسه.