سكان الطوابق العليا: ثمن النجاة حياة بلا خدمات

سكان الطوابق العليا: ثمن النجاة حياة بلا خدمات

من شوارع دمرتها الحرب إلى مبانٍ تضررت خدماتها الأساسية، يواجه سكان الطوابق العليا في أبراج قطاع غزة ظروفًا يومية استثنائية. فعلى الرغم من توقف القصف، ما تزال تأثيراته واضحة في تفاصيل الحياة، بعدما انتقلت من ساحات القتال إلى سلالم المباني التي تعطلت مصاعدها وتراجعت بنيتها الخدمية. 

ومع غياب الكهرباء وصعوبة وصول المياه إلى الطوابق المرتفعة، تحوّلت هذه الأبنية إلى مناطق شبه معزولة تُختبر فيها قدرة السكان على التحمل قبل أي شيء آخر. 

ففي كل برج متضرر، تتكرر المشاهد ذاتها: كبار سنّ يستندون إلى مقبض السلم، شباب يصعدون حاملين جالونات المياه بعد رحلة نزول شاقة، نساء يتحركن بحذر خشية الإرهاق أو السقوط، وأطفال ينظرون إلى الطوابق كما لو أنها جبال حقيقية. هذه التفاصيل اليومية، كما يصف السكان، باتت "حربًا ثانية" لا يُسمع فيها صوت الانفجارات، لكنها تستنزفهم بالصعود المستمر.

يقول أبو محمد الحيلّة، الذي يسكن في الطابق العاشر من برج المعتز غرب مدينة غزة، بينما يمسح عرقه بعد رحلة صعود شاقة: "أنزل وأصعد يوميًا مرات عدة لأحمل المياه. المصعد معطّل منذ بداية الحرب، والمياه لا تصلّ إلا إلى الطابق الأرضي. أحيانًا أشعر وكأنني أبدأ الحرب من جديد كلما رفعت جالون الماء". رحلة الصعود بالنسبة له ليست مجرد حركة جسدية، بل اختبار يومي لصحته البدنية التي تتهاوى يومًا بعد يوم. 

يضيف الحيلة (55 عامًا): "حين أصلّ إلى الطابق الرابع أكون بالكادّ ألتقط أنفاسي. أحيانًا أجلس على الدرج عشر دقائق قبل أن أتابع. ولكن ماذا نفعل؟ المنزل في الأعلى، وأطفالي صغار، ولا أحد يساعد". وتتشابه تجربته مع عشرات السكان الذين تحوّلت الدرجات إلى مساحة التقاء يومية بين التعب والاضطرار؛ حيث يستريح كبار السن على السلالم، ويصعد آخرون حاملين جالونات المياه، وكأنّ الدرج نفسه أصبح شارعًا ضيقًا يختبر صبر الجميع.

بعد أشهر من الحياة بلا مصعد، بدأت الأزمة تأخذ بُعدًا نفسيًا متصاعدًا. يروي أبو محمد: "قبل أسبوع نفدت المياه في وقت مبكر من الليل. كنت مرهقًا، ومع ذلك اضطررت للنزول لأننا بحاجة شديدة إلى الماء لاستخدام المرحاض. شعرت بالعجز وأنا أصعد… البيت أصبح كأنّه جبل يجب أن نتسلقه يوميًا لنعيش".

وهذه الشهادة ليست فردية؛ فبحسب مختصين في الصحة العامة، يمكن لصعود السلالم المتكرر أن يضاعف الإرهاق لدى كبار السن ويزيد من مخاطر نوبات القلب وضيق التنفّس، خصوصًا في غياب الكهرباء والتهوية وتدمير شبكات الخدمات.

في الطابق التاسع من برجٍ آخر، تعيش سارة صالح (25 عامًا)، وهي طالبة ماجستير، يومًا مختلفًا تمامًا عمّا كان عليه قبل اندلاع النزاع. تقول: "يومي لم يعد يُقاس بالساعات، بل بتوافر الماء والكهرباء والإنترنت". فالنزول للدراسة لم يعد قرارًا بسيطًا، بل عملية حسابية تقوم على تقدير الجهد المطلوب للصعود مجددًا مع حمولات المياه. 

وتتابع: "كل خطوة لها ثمن. أحيانًا كثيرة لا أستطيع حضور محاضرة لأنني لا أستطيع الوصول إلى الأسفل للاتصال بالشبكة. الإنترنت موجود، لكنّه لا يصلّ إلينا؛ الكهرباء غير ثابتة، والمصعد معطّل".

بحسب تقديرات منظمات إنسانية تعمل في قطاع غزة، فإنّ آلاف الطلبة الذين يعيشون في الأبنية المرتفعة يعانون من انقطاع شبه كامل للإنترنت بسبب ضعف الكهرباء، ما يعوق متابعتهم للدراسة أو العمل عن بُعد.

على نحوٍ قريب، يجلس الحاج أبو يوسف ضاهر (65 عامًا) أمام باب شقته في الطابق الثالث عشر من برج وسط مدينة غزة ليلتقط أنفاسه بعد صعود طويل. يقول بصوتٍ متعب: "قبل الحرب، وإن لم أكن أستطيع صعود كل هذه الطوابق بسهولة، فإن صحتي كانت تساعدني على قطع جزء منها دون عناء كبير. اليوم تغيّر الوضع تمامًا؛ كل صعود يجعلني أتوقف مرات عدة لأستريح… صحتي لم تعد كما كانت".

ويُبيّن أبو يوسف أن المشكلة لا تتعلق بالإرهاق فقط، بل بغياب أي وسيلة بديلة يمكن الاعتماد عليها في الحالات الطارئة. يقول: "تعطّل المصعد ليس مسألة تعب فحسب، بل خطر حقيقي على كبار السن. لو وقع طارئ، لا يمكننا النزول أو طلب المساعدة. المصعد متوقف منذ بداية الحرب، ولا بديل عنه".

ويرى خبراء الطوارئ أن انقطاع المصاعد عن الخدمة في المباني المرتفعة بعد الحروب يُعدّ أحد أخطر تحديات الإخلاء الطبي، ما قد يضاعف معدلات الوفاة في الحالات الحرجة.

إداريًا، يوضح عبد الله مهنا، مسؤول عن إدارة إحدى العمارات وسط مدينة غزة، أن تحسين الوضع بات شبه مستحيل في ظلّ الانهيار الواسع للخدمات الأساسية. يقول: "نحن كإدارة مبنى نحاول المساعدة قدر المستطاع، لكن تشغيل المصعد يحتاج إلى كميات من السولار لا يمكن توفيرها، وأسعاره ارتفعت بشكل غير مسبوق". 

ويشير إلى أن الحلول البديلة ليست ممكنة أيضًا، فحتى رفع المياه إلى الطوابق المرتفعة يتطلّب تشغيل مضخّات تستهلك وقودًا إضافيًا، بينما عدد كبير من السكان غير قادرين على تحمل أي تكاليف جديدة. 

ويضيف: "في النهاية، نحن نتعامل مع واقع يتجاوز إمكانات الإدارة والسكان معًا. لا سلطة لدينا على توفير الوقود، ولا قدرة على إصلاح الأضرار، وكل ما نقوم به هو إدارة الحد الأدنى لضمان استمرار السكن فقط".

ويرى خبراء البنية التحتية في غزة أنّ الأزمة ليست مسألة مصعد معطّل، بل انهيار شامل لشبكات الكهرباء والمياه بعد تدمير المحطات وخطوط الضخّ. وبحسبUNOSAT ، تأثر 81% من مباني غزة جزئيًا أو كليًا، وهو ما يعني أن أكثر من أربعة أخماس الأبنية فقدت جزءًا من قدرتها التشغيلية. وبالنسبة للسكان، فإنّ الطوابق العليا أصبحت "مناطق خدمية مهمّشة" تعجز شبكات المياه عن الوصول إليها.

ولا يتوقف أثر الصعود المتكرر عند الإرهاق الجسدي، بل يمتدّ إلى العلاقات الاجتماعية أيضًا. فالسكان في الطوابق العليا مقلّون في النزول لزيارة الأقارب أو المشاركة في الأنشطة البسيطة، بسبب مشقة الصعود، ما يخلق عزلة جديدة مفروضة بالدرجات. وتشير دراسات في علم الاجتماع الحضري إلى أنّ انقطاع المصاعد بعد النزاعات يحوّل الطوابق العليا إلى "مساحات شبه مهجورة" يندر فيها التواصل الاجتماعي.

أمام هذا الواقع، بدأ السكان بابتكار حلول بدائية للتكيّف مع الأزمة. فقد لجأ بعضهم إلى استخدام بكرات وحبال لرفع المياه إلى الطوابق المرتفعة، فيما تقاسم آخرون تكاليف مولدات صغيرة لتشغيل مضخّات المياه. لكن هذه المحاولات تبقى محدودة ومؤقتة، ومرهونة بقدرات السكان، في ظلّ غياب خطة رسمية لإعادة تأهيل المباني أو شبكات المياه.

ويرى مهندسون وخبراء طوارئ أن استمرار تعطل المصاعد لأشهر قد يجعل كثيرًا من الطوابق العليا غير صالحة للعيش، خصوصًا في فصل الشتاء حيث تزداد الرطوبة وصعوبة التنقل. كما أن غياب خطط إغاثية تراعي احتياجات المباني المرتفعة قد يؤدي إلى أزمة صحية متفاقمة لدى كبار السن والمرضى والنساء. 

في غزة، لم تعد الحرب تُقاس بمدى الدمار فحسب، بل بعدد الدرجات التي يصعدها السكان يوميًا لينقلوا الماء إلى بيوتهم. وبينما توقّفت الحرب الصاخبة، ما تزال الحرب الصامتة مستمرة… حربٌ تُختبر فيها الإرادة عند كل درجة، ويُقاس فيها الصمود بثقل كل جالون ماء. إنها معركة غير مرئية، لكنها الأكثر حضورًا في حياة الناس، والأبعد أثرًا في مستقبل المدينة.