غزة: الدراجة الهوائية في مواجهة انهيار فرص العمل

غزة: الدراجة الهوائية في مواجهة انهيار فرص العمل

في شوارعٍ محطمة لا تشبه ماضيها، يشقّ شبان غزة بدراجاتهم الهوائية طريقًا جديدًا للحياة وسط الركام. وبعد تدمير جزء كبير من أسطول المركبات، تحولت الدراجات القليلة الناجية من الحرب إلى مصدر رزق ووسيلة تنقّل يعتمد عليها كثيرون. من بينهم علي عاشور (18 عامًا)، الذي رأى في دراجته "الثمينة" فرصة للعمل، قبل أن تعترض طريقه جراح الواقع وحفر الشوارع.

كان عاشور يمسك بقدمه النازفة محاولًا كبح تدفّق الدم بعدما سقط أثناء توصيل إحدى الطلبات. جرّب أن يقود دراجته نحو أقرب مشفى ليُسعف نفسه، قبل أن يقف منهكًا أمام الطبيب الذي أغلق جرحه بتسع غرز. بدا متجهّمًا؛ فعمله السابق في محل تجاري انتهى بتدمير المكان، ولم يجد بديلًا سوى استثمار دراجته لتأمين دخل بسيط، في وقت تتسع فيه دائرة الفقر إلى نحو 100% بين الأسر وتتجاوز البطالة 80%، أي أنّ أغلبية الشباب باتوا بلا أي فرصة عمل تُذكر.

يقول: "كنت أعمل قبل الحرب في محل كبائع، لكنّه تدمّر. ومع قلّة فرص العمل خطرت لي فكرة أن أستفيد من دراجتي لإعالة نفسي وعائلتي. أعمل من الثامنة صباحًا حتى المساء، وأتمنى أن تتحسن الظروف لأدرس الهندسة."

ويضيف وهو ينظّف مرايا دراجته المتضررة، أنّ الطرق المدمرة تجعله متوجسًا طوال الوقت، يخشى أي حفرة قد تقلبه في لحظة، بينما يلازمه هاجس القصف الذي يدفعه لتخيّل عشرات السيناريوهات لتفادي الخطر وهو على دراجته.

عاشور ليس وحده؛ فشبان آخرون رأوا في دراجاتهم الهوائية ما يشبه كنزًا صغيرًا يمكن أن يوفر لهم مورد رزق يومي، وصاروا جزءًا من مشهد اقتصادي جديد يؤكد قدرة الجيل على خلق فرصة من العدم رغم كل ما تهدم من حولهم.

في حي الرمال شمال قطاع غزة، يثبت عبد الله قاعود (23 عامًا) دراجته الهوائية التي اشتراها قبل الحرب، ويضع في صندوقها أكياس توصيل كثيرة استعدادًا ليومٍ طويل من العمل. فبينما أصبح 74% من الشباب بين 15 و29 عامًا خارج نطاق العمل والتعليم، وجد قاعود في الدراجة منفذًا للعمل وسط الانهيار الحاصل في سوق الوظائف.

يقول وهو يستعدّ للانطلاق: "بدأت فكرة تحويل دراجتي الكهربائية لوسيلة دليفري بعد الحرب مباشرة، مع شحّ المواصلات والبنزين. رأيت الناس يحتاجون التوصيل، فقررت استغلالها كفرصة عمل. لم يخطر لي يومًا أن تتحوّل هوايتي إلى مصدر رزق."

قاعود، الذي أنهى دراسة تطوير الويب مؤخرًا، لم يجدّ فرصة للعمل في مجاله بعد أن شلّت الحرب سوق الوظائف التقنية، فاضطر إلى الاتجاه نحو "الدليفري" لتأمين مصدر دخل. يتلقّى اليوم طلبات متنوعة بين أدوية وطعام واحتياجات أخرى، ويمتدّ يومه لما يُقارب عشر ساعات، ينجز خلالها نحو خمس طلبات. لكن الشوارع المُدمرة، إذ تضرر أكثر من 1500 كيلومتر من الطرق، تطيل رحلته في كل مرة، ما يضطره إلى قيادة حذرة لتجنّب أي حادث.

ويستذكر أحد أصعب المواقف التي مرّ بها، حين واجه أعطالًا مفاجئة مثل انفجار العجلة، أو مرّ بقصف قريب وهو في الطريق، إضافة إلى التأخيرات الطويلة التي تفرضها الطرق المحطمة، فيضطر إلى سلوك طرق التفافية وبعيدة، خاصة داخل المناطق المدمرة.

يرى قاعود في دراجته الكهربائية كنزًا يصعب تعويضه، وسيلة رزق تحتاج إلى صيانة وقطع غيار شبه مفقودة، كبطاريات ومكونات كهربائية. ويقول: "أزمة شحن البطاريات واحدة من أكبر العقبات أمامي. كل عملية شحن تكلف نحو 5 شيقل، وهذه الكلفة تتكرر أكثر من مرة يوميًا. المشكلة تتفاقم عندما تنفد البطارية في ساعات الذروة ولا أجد مكانًا متاحًا للشحن."

في خانيونس جنوب قطاع غزة، كان مشهور عزّام (28 عامًا) يعمل شيف حلويات متنقلًا بين محال غزة الشهيرة: ساق الله، المزنّر، وعرفات، قبل أن تتوقف صناعة الحلوى مع بداية الحرب ويجد نفسه بلا عمل، ليقرر لاحقًا شراء دراجة هوائية والبدء في توصيل الطلبات.

يقول عزّام وهو ينظر إلى صوره القديمة: "الدافع الأساسي كان الحاجة. عائلتي تحتاج إلى مصدر دخل. الحرب دمرت كل شيء، لا مواصلات والوضع صعب، فاضطررت لخلق فرصة من لا شيء لأعيش بكرامة. أصبحت الدراجة مصدر رزقي الوحيد الآن."

أكثر ما يرهق عزّام في عمله هو ندرة قطع الغيار؛ فقد اضطر لاستبدال دراجته بعدما تعذّر إصلاحها، وتوقف عن العمل مرات عدة بانتظار قطعة لا تتوفر في الأسواق. ويأمل أن يحصل قريبًا على دراجة كهربائية تمنحه استقرارًا أكبر وتتيح له تنفيذ طلبات أكثر يوميًا.

تكشف هذه الشهادات المتتابعة ملامح واقع اقتصادي مأزوم باتت فيه الدراجة الهوائية حلًا اضطراريًا لا خيارًا. ومع تضرر أكثر من 55 ألف مركبة وشلل قطاع المواصلات، وغياب البنية التحتية، وتوقف قطاعات العمل والتعليم، يجد الشباب أنفسهم أمام فرصة واحدة تقريبًا للبقاء في سوق العمل: دراجة يمكن تحويلها إلى وسيلة رزق متنقلة.

أمام هذا الانهيار، تحوّلت الدراجة الهوائية، على بساطتها، إلى أداة مقاومة اقتصادية يلجأ إليها الشباب لتعويض ما خسرته منظومة العمل التقليدية. لم تعد مجرد وسيلة تنقّل، بل أصبحت مشروعًا صغيرًا قائمًا بذاته، ومنصة متحركة للعمل في سوقٍ انهارت فيه الوظائف الخاصة والعامة.

في هذا الواقع المعقّد، يمضي الشبان في حياتهم بما تبقّى بين أيديهم من أدوات بسيطة وفرص ضيقة. لم يكن العمل بالدراجات خيارًا مثاليًا، لكنه كان الحلّ الأقرب المتاح وسط المعوّقات الجسيمة التي يواجهونها. وبرغم المشقة، يواصلون عملهم، رافضين الانضمام إلى قوائم البطالة، ومؤمنين بأن بإمكانهم انتزاع حياة جديدة من تحت الركام.