كيف تصعد ثروات تجار بينما يزداد فقر الناس؟

كيف تصعد ثروات تجار بينما يزداد فقر الناس؟

في اقتصاد يترنّح تحت أثقال الحرب، لا يتراجع مستوى المعيشة فحسب، بل تتهاوى معه قدرة الغزيين على تأمين أبسط احتياجاتهم. تتآكل القوة الشرائية بسرعة تفوق ما يبقى على رفوف المتاجر من سلع أساسية، وتتحوّل رحلة شراء مستلزمات بسيطة إلى مواجهة يومية مع الأسعار المتصاعدة.

ومع شُحّ المعروض وارتفاع تكاليف إدخال البضائع، يجد المواطن نفسه بين شُح وفاتورة تتضاعف، فيما تصبح منتجات كانت في المتناول ضربًا من الرفاهية.

ويعزّز هذه الأزمة انهيار الناتج المحلي في غزة بنسبة غير مسبوقة تجاوزت 83% في 2024، وأنه دخل عام 2025 في حالة انهيار شبه كامل مع استمرار الحرب وغياب دورة إنتاج طبيعية. بحسب تقديرات "الأونكتاد"، إلى جانب ارتفاع معدل البطالة إلى ما يقارب 80%، ما يجعل القدرة الشرائية شبه معدومة لدى شريحة واسعة من السكان.

في المقابل، برزت داخل هذا الاضطراب الاقتصادي طبقة صغيرة من التجار رأت في الفوضى فرصة للربح؛ فبينما تتراجع دخول الناس وتتآكل مدخراتهم، ترتفع ثروات هؤلاء مع كل شاحنة تدخل عبر التنسيقات، وكل سلعة يُعاد تسعيرها بذريعة "مخاطر الحرب".

ومع تسجيل تضخّم تجاوز 108% في أسعار السلع الأساسية خلال منتصف 2025، باتت معادلة السوق تميل بالكامل لصالح مَن يتحكمون بالاستيراد وإعادة التسعير.

ومع اتساع الهوّة، تتردد الأسئلة بين الغزيين: مَن يضبط السوق؟ أين وزارة الاقتصاد؟ وأين الغرفة التجارية؟ من يمنح إذن الاستيراد؟ ولماذا تتراجع الرقابة كلما ارتفعت الأرباح؟

أسئلة تعبّر عن شعور جماعي بأنّ المواطن خرج من دائرة الحماية، وأن السوق يدور في فلك قلّة محدودة، بينما تتحمّل الأغلبية تبعات اقتصاد هشّ يعيش على وقع الحرب والاحتكار معًا.

وسط هذه الفوضى، تتجلى ملامح الأزمة في قصص الغزيين اليومية. ففي أحدّ محال دير البلح وسط القطاع التي لم تمتد إليها يد القصف، وقف خليل صالح (54 عامًا) أمام مواقد الطهي التي انتظر رؤيتها منذ عامين، اختبر خياراته بعينٍ مرهقة، لكنّه خرج بلا شيء حين أدرك أنّ السعر تضاعف خمس مرات.

يقول وهو يصفق كفيه: "هل يُعقل أنّ غازًا بعينتين فقط كان بـ 100 شيكل قبل الحرب، يصبح اليوم بـ 500 شيكل؟ يقولون إن التنسيقات مكلفة… هل يُخرج التجار كل ذلك من جيوبنا؟ هذه أسعار جنونية".

يشير الرجل إلى اسطوانة الغاز التي أنقذها من تحت أنقاض منزله قائلاً إن ثماني كيلوغرامات من الغاز باتت حلمًا بعيد المنال: "قبل الحرب كنت أشتري كل شيء بالتقسيط. الآن لا يوجد أي خيار".

وتتكرر مشاهد الارتباك ذاتها مع كثير من المواطنين. المواطنة سعاد خليل، التي فقدت منزلها وكل ما تملك، تدخل محل الأدوات المنزلية الذي اعتادت ارتياده منذ سنوات، لتكتشف أنّ الرفوف الممتلئة لا تعكس حقيقة ما يجري؛ فالأجهزة الأساسية التي يحتاجها أي بيت، كالطناجر، وأدوات الطهي، وغيرها، أصبحت تُباع بأضعاف مضاعفة.

تتجوّل بين الرفوف بعينين تراقبان الأسعار أكثر مما تراقبان السلع، ثم تلتقط طقم أوانٍ بيد مرتجفة وتقول: "أبدأ من الصفر، أحاول كل شهر شراء قطعة واحدة بالتقسيط". هكذا يتحوّل تأثيث مطبخ جديد إلى مشروع طويل ومُرهق، تقتطع له من قوتها لتؤمّن أبسط ما تحتاجه للنجاة اليومية.

أما الخمسيني عبد الرحمن عثمان فاضطر لشراء برميل مياه مستعمل لبيته المدمر بسعرٍ فاق سعر الأصلي كثيرًا، بينما صُدم حسين سليم بفاتورة بلغت 700 شيكل مقابل أوانٍ أساسية لبيته. تساءل وهو يحمل أكياسه الثقيلة: "أين وزارة الاقتصاد؟ أين الغرفة التجارية؟ من يحمينا من هذا الغلاء؟".

ورغم أنّ اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر الماضي نصّ على دخول 600 شاحنة يوميًا لتلبية احتياجات السوق، فإن ما يصل فعليًا لا يتجاوز 145 شاحنة يوميًا، وفق مكتب الإعلام الحكومي. ومع هذا الانخفاض الحادّ في الإمدادات، تمرّ الكميات المحدودة عبر آلية التنسيقات المالية، حيث يدفع التجار مبالغ كبيرة لضمان السماح بإدخال بضائعهم قبل أن يعكسوا تلك التكاليف على المستهلكين.

وبينما لا تُفصح الجهات الرسمية عن بيانات تفصيلية لمبالغ التنسيقات خلال الفترة من أكتوبر حتى ديسمبر 2025، تشير أرقام غرفة تجارة وصناعة غزة إلى أن إجمالي ما دُفع منذ بداية الحرب وحتى نوفمبر 2025 بلغ نحو 976 مليون دولار؛ وهو رقم يكشف اتساع الظاهرة أكثر مما يوضح توزيعها الزمني.

وفي المقابل، ما تزال التقدّيرات المتداولة حول تكلفة تنسيق الشاحنات تعكس حجم الفجوة: فتنسيق شاحنة لحوم أو دجاج قد يصلّ إلى 400 ألف شيكل، فيما تبلغ تكلفة تنسيق شاحنة ملابس نحو 350 ألف شيكل، دون وجود بيانات محدثة تُبيّن ما إذا كانت هذه الأرقام قد ارتفعت أو انخفضت في الربع الأخير من العام.

نتيجة ذلك، أصبح عدد محدود من التجار، بعضهم يعمل من خارج غزة، قادرين على التحكم بأنواع السلع الداخلة وأسعارها، لتتشكل شبكات احتكار صغيرة ذات أثر كبير على السوق والمستهلكين.

مدير الغرفة التجارية عائد أبو رمضان، يقول، إن ما يحدث يتجاوز مجرد استغلال ظرف اقتصادي، مضيفًا: "هناك مافيا فلسطينية – إسرائيلية تتحكم بالبضائع الداخلة. هي مَن يحدد الأنواع والأسعار. ولا توجد أي جهة محلية تصدر إذن استيراد رسمي".

ويشير أبو رمضان إلى أنّ الغرفة التجارية لا تمتلك صلاحية فرض قوائم سعرية، بل تكتفي برفع التوصيات ورصد المخالفات، بينما يصعب ضبط التجار المعتمدين على نظام التنسيق لأنّ معظمهم خارج القطاع.

وتقع مسؤولية ضبط الأسعار، وفق قانون حماية المستهلك رقم 21 لسنة 2005، على وزارة الاقتصاد الوطني بوصفها الجهة المختصة بمتابعة الأسواق وتنظيمها. وينصّ القانون في مواده على ضرورة مراقبة السلع ومنع الاحتكار واتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية المستهلك، ما يجعل الوزارة الطرف المسؤول أولًا عن كبح الارتفاع غير المبرر في الأسعار وضمان توازن السوق.

بدوره، مدير حماية المستهلك محمد بربخ قال إنّ أنواع السلع الداخلة تُحدّد غالبًا وفق رغبات التجار، وملف التنسيقات وبيع أذونات الاستيراد مليء بالإجراءات غير الواضحة، وبعض التجار، بحسب ما جرى توثيقه لدى الوزارة، يشترون شاحنات كاملة عبر التنسيق أو البيع المباشر.

ويوضح بربخ أن جهود الوزارة تركزت مؤخرًا على تسعير السلع الغذائية الأساسية مثل الطحين والسكر والزيوت والبقوليات والخضروات، مع العمل على لحوم الدواجن والبيض. أما الأدوات غير الغذائية، ومنها أدوات الطهي والسباكة والأدوات المنزلية، فلا تزال قيد الدراسة، بانتظار تقييم التكاليف الكلية ومبالغ التنسيقات المدفوعة.

ويشير إلى إعداد لجنة سعرية طلبت فواتير الاستيراد وبلدان المنشأ للمقارنة، وإلى استدعاء عدد من التجار المحتكرين وتوقيعهم على تعهدات بالالتزام بالتسعيرة عند صدورها. لكنّه يقرّ بأنّ القيود على المعابر تجعل تنفيذ رؤية الوزارة والغرفة التجارية أمرًا بالغ الصعوبة.

ويرى المختص الاقتصادي أحمد أبو قمر أن المشكلة لا تقف عند حدود الجشع الفردي لبعض التجار، بل تتصل ببنية السوق نفسها في ظل الحرب. ويوضح أن التكاليف التشغيلية ارتفعت بشكل كبير، من كهرباء وماء وإيجارات، كما ازدادت المخاطرة المرتبطة بجلب البضائع، إلى جانب الكلفة الباهظة للتنسيقات.

ويقول أبو قمر: "هذا ليس غلاءً عاديًا، بل تضخّم ناتج عن تعويم قسري للسوق، حيث تُترك الأسعار بلا ضوابط حقيقية وسط بيئة عالية المخاطر".

وفي ظلّ هذا التناقض بين ما يُعلن وما يُنفّذ، يمضي السوق في مسار منفلت لا تحكمه سوى قدرة قلّة على التحكم بما يدخل ويُباع. ترتفع الأسعار بلا سقف، وتبقى السلع الأساسية رهينة شحّ العرض، فيما تتراجع أدوات الرقابة إلى الهامش. وبينما تُفتح أبواب المعابر لسلع كمالية لا يحتاجها الناس، تُقيَّد السلع الحيوية بضوابط صارمة، لتبقى غالبية الغزيين عالقة في اقتصاد يزداد قسوة كلما طال أمد الحرب.

وهكذا يستمر المواطن في دفع الثمن، منتظرًا يومًا تتراجع فيه الفوضى، وتتقدم فيه حماية المستهلك على مصالح المحتكرين، ويُعاد فيه للسوق ميزانه الذي اختلّ تحت وطأة الحرب والاحتكار.