أين شباب غزة من "اليوم التالي"؟

أين شباب غزة من "اليوم التالي"؟

من خيمة مكتظّة في قطاع دمّرته الحرب، إلى شارع لم يبقَ منه سوى الركام، يجلس شباب غزة يحملون أحلامًا وخططًا لإعادة الإعمار، لكن أحدًا لا يصغي إليهم. فبعد عامين من النزاع، ما تزال القوى السياسية التقليدية تتصارع على رسم ملامح "اليوم التالي"، فيما يبقى الجيل الذي عاش ويلات النزاع خارج النقاشات التي تُحدِّد مستقبله.

وهنا يبرز صوت المهندسة الشابة سجى نبهان وهي تتأمّل ما تبقّى من حيّها في مخيم جباليا. تقول: "كل يوم أرى مخططات عن اليوم التالي على الأخبار ومواقع التواصل الاجتماعي؛ أناس لم يعيشوا هنا يومًا يخططون لمستقبلنا". بالنسبة لها، لا ينحصر الألم في الركام الذي يحيط بها، بل في شعور متزايد بأن مستقبل غزة يُصاغ بعيدًا عن أصحاب الحق الفعلي في بنائه. 

وتوضح نبهان (26 عامًا) أنّ جوهر الأزمة لا يكمن في نقص الحلول، بل في غياب الإرادة السياسية لتمكين أصحاب الكفاءات.  وهو ما تؤكده أيضًا دراسات محلية تُظهر أن تمثيل الشباب في مواقع صنع القرار لا يتجاوز 1%.

وتضيف بحزم: "أرفض أن أكون مجرد رقم في إحصائية بطالة. أعطونا الثقة والموارد، وشاهدوا كيف سنحوّل غزة من رمز للدمار إلى نموذج للابتكار".

ولم يكن هذا الإقصاء وليد اللحظة؛ فالحرب خلّفت جيلًا مثقلاً بالخسارات: آلاف الشبان استُشهدوا أو نزحوا وفقدوا منازلهم، وتفككت شبكات الدعم الاجتماعي، وبلغت البطالة مستويات غير مسبوقة، فيما حُرم عشرات الآلاف من التعليم الجامعي. وإلى جانب الخراب المادي، يواجه معظم الشباب صدمات نفسية عميقة في ظلّ نظام صحي عاجز عن دعمهم.

وعلى المستوى الاقتصادي، يجد هؤلاء الشباب أنفسهم في سوق عمل مشلول تقريبًا؛ إذ انهار جزء كبير من القطاع الخاص، وتوقفت آلاف الورش والمشاريع الصغيرة، ما جعل فرص التشغيل شبه معدومة. وتشير تقارير البنك الدولي والاتحاد الأوروبي حول اقتصاد غزة إلى أنّ غياب الإصلاح السياسي يعيق خلق أي بيئة اقتصادية قادرة على امتصاص صدمات ما بعد الحرب. ورغم أن إعادة الإعمار قد تُنشئ قطاعات واعدة في التكنولوجيا والبناء والطاقة والخدمات، فإنّ غياب السياسات الحكومية الواضحة يترك هذه الآفاق معلّقة بلا إطار يضمن استفادة الجيل الشاب منها.

ويمتدّ هذا التهميش ليصبح حاجزًا غير مرئي يفصل بين مَن يُقرّر ومَن يَحيا النتائج؛ جيلٌ صقلته التجربة القاسية لكنّه يجد نفسه خارج الطاولة التي تُصاغ عليها القرارات الكبرى. وبينما تتقاطع المبادرات الدولية وخطط الإعمار، يُختزل دور الشباب في أدوار رمزية رغم أنهم الطرف الذي سيحمل عبء التنفيذ وإعادة بناء مجتمع فقدَ أساساته. وهو ما وصفته ورقة بحثية صادرة عن FES بأنّه "تغييب ممنهج لصوت فئة ستتحمل العبء الأكبر من التعافي".

وفي مقابل هذا التجاهل المؤسسي، تظهر مبادرات شبابية تعمل رغم شحّ الموارد، مثل حملة "حنعمرها تاني" التي أطلقها متطوعون لإزالة الركام وتنظيف الأحياء وترميم مساحات عامة، في محاولة لاستعادة نبض الحياة. ورغم بساطة الأدوات، تكشف هذه المبادرات عن إرادة جيل لا ينتظر إذنًا رسميًا ليبدأ إعادة البناء، لكنه يصطدم بغياب الدعم واحتواء دوره داخل السياسات الرسمية.

وتجد الناشطة الشبابية هبة الشريف (35 عامًا)، في هذا التجاهل وجهًا آخر للمشكلة. تقول: "وسائل الإعلام تتجاهل صوت الشباب رغم أنهم الأكثر تأثرًا بقرارات اليوم التالي. تُطرَح أسماء وتُعقَد تسويات من دون أن يكون لنا رأي!". 

وتشير إلى حاجة الشباب لإعلام مستقل قادر على إيصال صوتهم وتشجيع الحوار البنّاء، مؤكدة أن غياب هذا الدور يعمّق شعورهم بالإقصاء. ثم تتساءل بمرارة: "لِمَ لا يفكّر أحد في سؤالنا؟ لماذا نحن هنا؟ وما الذي نريده منهم؟ ولماذا لا يُشركوننا في صياغة المستقبل؟".

وزاد من هذا العبء انسداد الأفق السياسي، إذ تراجعت ثقة الشباب بالقيادة التقليدية، وارتفعت رغبتهم في الهجرة مدفوعة بانهيار فرص العمل وفقدان الأمل بالإصلاح. وتتجلى الأزمة بأوضح صورها في المعادلة القاسية التي يعيشها شباب مؤهلون وجدوا أنفسهم بين خيارَيْن: البقاء في وطن لا يفسح مجالًا لطموحهم، أو الرحيل بحثًا عن مستقبل.

هذا الاختناق يجسّده أحمد قاسم، الذي يعمل مع إحدى المنظمات الدولية، بقوله: "مَنْ أعطى القرار لأصحاب المناصب أن يخططوا لمستقبلنا من خلف مكاتبهم المكيّفة خارج فلسطين؟". 

ويشرح قاسم (29 عامًا) أنّ الشباب، رغم معرفتهم الدقيقة بتحدّيات الأرض وواقعها، ما زال صوتهم غائبًا عن دوائر القرار. فالحرب انتهت منذ نحو شهرين، ومع ذلك لا يَرِد ذكرهم في أي من خطط "اليوم التالي"، وكأنّ وجودهم – كما يقول- لا يشكّل عنصرًا من عناصر المستقبل الذي يُناقش فوق رؤوسهم.

ويضيف بحزن: "حصلت على ثلاث منح دراسية في الخارج، لكنني أخشى أن أجد نفسي مضطرًا للاختيار بين وطن لا يقدّر طموحي، أو الهجرة لبناء مستقبل يليق بكفاحي".

ووفقًا لتقرير الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني 2025، فإن الفئة العمرية من 18 إلى 29 عامًا تُشكِّل نحو 21% من سكان فلسطين، لكنهم الأكثر تضررًا من الحرب في غزة؛ إذ انخفض عددهم بنسبة 10% عن التقديرات السكانية للعام الحالي، واستُشهد الآلاف منهم أو غادروا القطاع. كما بلغ معدل البطالة بين الشباب نحو 80%، في وقت حُرم فيه 88 ألف طالب وطالبة من التعليم الجامعي.

وفي هذا السياق، تتساءل طبيبة الأسنان بسمة فريد (25 عامًا)، التي تعمل في ظروف صعبة داخل مركز طبي متضرر، عن إمكان الاستمرار في العمل بأدوات متواضعة تفتقر إلى أبسط المعدات. وتوضح: "نحن مستقبل غزة ولسنا مجرد متلقّين للقرارات. آن الأوان أن نكون في قلب المعادلة السياسية، لا على هامشها. كيف تُخططون لمستقبلنا دون أن نكون على طاولة الحوار؟ مشاركتنا ليست رفاهية، بل ضرورة لإعادة البناء بشكل حقيقي واستمرار القضية”.

في المقابل، يُحمِّل مراقبون القوى السياسية الفلسطينية مسؤولية إقصاء الجيل الجديد. يوضح الأكاديمي المتخصص في الشؤون الفلسطينية وائل العالول أنّ الصراع على "اليوم التالي" هو في جوهره صراع على شرعية تمثيل الشعب الفلسطيني، أكثر منه نقاشًا حول إعادة الإعمار أو تنظيم الحياة المدنية.

ويرى العالول أنّ الأطراف التقليدية تتعامل مع هذا الملف بوصفه ورقة تفاوضية مرتبطة بالترتيبات الأمنية، بينما ينظر إليه شباب غزة كمسألة وجود يومي وفرصة وحيدة لإعادة بناء مجتمع متهالك.

ويضيف أن تغييب الشباب ليس عارضًا، بل جزء من بنية سياسية مغلقة تراهن على استمرار حالة الطوارئ لتبرير احتكار القرار. ويشرح أن هذا النهج لا يُقصي جيلًا كاملًا فحسب، بل يخلق فجوة خطيرة بين القيادة التاريخية والجمهور، ويهدد بانهيار فكرة التمثيل الفلسطيني برمتها، ما يترك الأجيال المقبلة بلا أفق سياسي أو اجتماعي للنهوض.

ويذكّر العالول بأن غياب الانتخابات العامة منذ عام 2006، وشلل المجلس التشريعي، وغياب أي أطر قانونية تضمن تمثيلًا دوريًا ومتجددًا، جعل الشباب خارج بنية التمثيل الرسمي؛ فلا قوانين كوتا للشباب، ولا مجالس منتخبة فعّالة يمكن أن يعبروا من خلالها إلى مواقع صنع القرار< ما يحوّل تهميشهم إلى نتيجة مباشرة لأزمة دستورية وسياسية مستمرة.

كما يشير العالول إلى أن الفاعلين الدوليين ساهموا، بوعي أو دون وعي، في تكريس هذا النمط، عبر اقتصار التعامل على النخب السياسية القائمة وتجاهل المجتمع المدني والطاقات الشابة، ما جعل خطط "اليوم التالي" تبدو منفصلة عن الواقع الميداني واحتياجات الناس.

ويحذّر من تكرار أخطاء مراحل إعادة الإعمار السابقة، خصوصًا بعد العدوان الإسرائيلي عام 2014، حين جرى ضخّ أموال طائلة في مشاريع بنية تحتية من دون ربطها بإصلاح سياسي أو توسيع قاعدة التمثيل؛ ما أدى إلى إعادة إنتاج الهشاشة نفسها التي انفجرت مجددًا في هذه الحرب.

ويؤكد أن أي مشروع لإعادة الإعمار لن ينجح ما لم تُفتح البنية السياسية أمام جيل جديد يحمل أدوات مختلفة ورؤية أكثر التصاقًا بالشارع.

ومن وجهة نظره، لا يقتصر مطلب الشباب على الاعتراف بمعاناتهم، بل يتجاوز ذلك إلى مطالب محددة وواضحة: حضور فعلي في لجان التخطيط لليوم التالي، مشاركة في النقاشات المتعلقة باتفاقات الإعمار وترتيبات الحوكمة، تخصيص موارد لتمويل مبادراتهم المجتمعية والاقتصادية، ووضع خطط تشغيل تستهدفهم مباشرة في قطاعات البناء، والخدمات، والتكنولوجيا، والحكم المحلي. ويرى أن مشاركة الشباب في صياغة هذه السياسات ليست خيارًا تجميليًا، بل شرطًا لنجاح أي رؤية مستقبلية لغزة.

ويختتم قائلاً إنّ إعادة بناء غزة ليست ممكنة من دون إعادة بناء شرعية سياسية حقيقية، تبدأ بإشراك الشباب بوصفهم شركاء في صنع المستقبل، لا متفرجين على صراع لا يملكون فيه صوتًا ولا موقعًا.

اليوم، يُلخّص سؤال واحد مأساة جيل كامل: "لِمَ لا يفكّر أحد في سؤالنا؟"، وبينما تستعد غزة لمرحلة ما بعد الحرب، يبدو أن التحدي الأكبر ليس إعادة بناء الحجر فحسب، بل إعادة بناء الثقة بجيل يحمل مفتاح المستقبل، قبل أن يفوت الأوان. ففي غياب هذا التمثيل، لن يكون "اليوم التالي" سوى نسخة جديدة من الأمس ذاته.