صيادو غزة.. الجراح أعمق من كل الشباك

صيادو غزة.. الجراح أعمق من كل الشباك

على رصيفٍ مُحطَّم في ميناء غزة، يقف الصياد الخمسيني بهاء عوض يتفقد بقايا قاربه الذي تحوّل إلى هيكل خشبي صامت، يمرر يده فوق المحرك المتفحّم ذي الشفرات الملتوية ويتمتم: "هذا لم يكن مجرد مركب… هذا بيتنا ورزقنا".

يرفع عوض بصره نحو البحر، ثم يضيف: "كنا نعود محمّلين بالأمل حتى في أصعب الأيام؛ البحر كان يعرف خطواتنا، وصوت محركاتنا. لكن اليوم وأنا أقف أمام هذا الحطام، أشعر كأنّ البحر تغيّر علينا، وكأن رزقنا صار أبعد من أن تُدركه شبكاتنا."

لم تكن خسارته حالة فردية؛ بل انعكاسًا لانهيار قطاع كامل كان يعيل قبل الحرب بشكل مباشر وغير مباشر ما يقارب 110 آلاف شخص، ويشكّل آخر أعمدة الأمن الغذائي في غزة. ومع تدمير الأسطول وانكماش مناطق الصيد، لم يخسر الصيادون مصدر قوتهم فقط، بل فقد آلاف السكان آخر مورد بروتين حيواني كان متاحًا وسط الحصار والمجاعة. 

وفي خضم هذا الانهيار تبرز أسئلة بديهية تتكرر على ألسنة الصيادين: ما الذي قُدّم فعليًا لهم؟ ولماذا لا توجد بيانات دقيقة حول حجم الدعم أو نوعه أو أثره؟

اعتمدت هذه القصة الصحفية المدفوعة بالبيانات على مراجعة دورية لتحديثات منظمة الأغذية والزراعة (FAO) بين أكتوبر 2023 وأبريل 2024، وتحليل بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، إضافة إلى دراسة صور أقمار صناعية منشورة عبر منصات مراقبة دولية تُظهر تغيّر حركة القوارب في ميناء غزة قبل الحرب وخلالها وبعدها. 

كما استندت إلى سجلات نقابة الصيادين وتقارير حقوقية محلية، وورقة حقائق تفصيلية حول قطاع الصيد البحري في غزة، وإلى شهادات ميدانية جمعتها معدّة القصة من الصيادين المتضررين في غزة، مع مطابقة هذه الشهادات مع البيانات الرسمية لتقدير حجم الخسائر، ورصد فجوات الدعم، وتقييم الوضع التشغيلي للقطاع البحري.

تشير بيانات منظمة الأغذية والزراعة (FAO) إلى أنّ إنتاج الصيد تراجع إلى 7.3% من مستويات 2022، مع خسائر قُدرت بنحو 17.5 مليون دولار، فيما بلغ الضرر في أصول الصيد والاستزراع السمكي نحو 70% تشمل القوارب والمراسي والحاضنات. 

ويوثّق (أوتشا) دمارًا بالغًا في الميناء الرئيسي ومقتل أو إصابة عشرات الصيادين خلال محاولاتهم الوصول إلى البحر. لكن حين يتعلق الأمر بالدعم، تتبدد التفاصيل. فرغم دقة الأمم المتحدة في نشر أرقام الخسائر، إلا أنها تكتفي في مقابل ذلك بعبارات عامة مثل "دعم سبل العيش" و"الاستجابة المتكاملة للأمن الغذائي"، دون أي تفصيل حول من تلقى مساعدات نقدية، أو كمية المعدات التي دخلت غزة، أو الجداول الزمنية لإعادة تشغيل الميناء.

وبحسب مراجعة شاملة للتحديثات الأممية، يعمل قطاع الصيد اليوم ضمن بيئة "شديدة التقييد"، تتجلى في منع الوصول إلى عمق البحر وتوقف شبه كامل لإدخال المعدات، إضافة إلى دمار واسع لا يمكن تجاوزه عبر منح صغيرة أو طرود غذائية.

 

عند طرف الميناء، يقول الصياد الشاب محمد بكر، الذي فقد قاربه الثاني خلال الحرب، إنه لا يطلب الكثير سوى الإجابة عن أسئلة ظلّت بلا رد: هل يحصي أحد خسائرهم؟ ولماذا يشعرون أنهم خارج المشهد رغم تسجيل المؤسسات لبياناتهم مرارًا؟ يؤكد أن أحدًا لم يخبره يومًا إن كان مستفيدًا أو إن كان هناك إطار لإصلاح القوارب. 

خلفه تظهر المياه هادئة على غير عادتها وخالية من الحسكات، بينما يقف عشرات الصيادين على اليابسة كأنهم ينتظرون إشارة لا تأتي.

وفي دير البلح وسط القطاع، يجرّ الشاب فراس أبو مهدي شبكة ممزقة ويقول إنهم لم يخرجوا سوى ثلاث مرات منذ إصابة شقيقه في نوفمبر، وإن كل رحلة تبدو كأنها معركة؛ الرصاص فوق رؤوسهم وغلتهم لا تتعدى كيلوغرامات قليلة.

يشير إلى حفيده الذي كان يساعده قبل الحرب، ويقول إن الطفل أصيب بشظية وصار يخاف من القارب، فالذهاب إلى البحر لم يعد تدريبًا على مهنة المستقبل، بل مواجهة مفتوحة مع الخوف.

على بُعد بضع كيلومترات منه في خان يونس جنوب القطاع، يجلس الصياد غالب يوسف قرب محرك محترق كان "القلب الحقيقي للقارب" ويشرح أنّهم لم يستطيعوا الإبحار لأكثر من نصف ميل منذ بداية الحرب، وأن المساعدات التي تصل لا تتجاوز كونها حلولًا مؤقتة لا تعيد القوارب إلى العمل.

في 22 نوفمبر 2024 استُشهد الصياد ماهر خليل أبو ريالة قبالة مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، بعدما استُهدف بقارب يدوي صغير، ولم يكن يبتعد سوى عشرات الأمتار عن الساحل. وخلال الأيام التالية استشهد الصيادان حسن الهبيل وإسماعيل صلاح خلال أقل من 24 ساعة، وأصيب آخرون بينهم من فقد ساقه. كما اعتقلت قوات الاحتلال أكثر من 12 صيادًا بعد وقف إطلاق النار.

وفي الوقت الذي كان يُفترض أن يخفف الاتفاق من المخاطر، تشير تحليلات جهات حقوقية وإنسانية إلى أنّ الحظر البحري ما يزال يُستخدم كأداة ضغط واستهداف، وأنّ وقف النار لم يشمل فعليًا القيود المفروضة على البحر، ما جعل الصيادين يرددون أن الاتفاق "لم يشمل البحر".

ومع تدمير أكثر من 1800 مركب من أصل 2000، فقد معظم الصيادين أدوات عملهم الأساسية واضطر كثير منهم إلى العودة إلى وسائل بدائية صنعت من بقايا الأخشاب وأبواب الثلاجات وإطارات السيارات. كانت هذه الوسائل تصلّ بالكادّ إلى مئات الأمتار من الساحل، ولا تنتج سوى أقلّ من 2% من الإنتاج الطبيعي قبل الحرب، حتى بات الصيادون يصفونها بأنها ليست مراكب بل "طرق للنجاة".

لم يقتصر الانهيار على الأدوات البديلة التي لجأ إليها الصيادون، بل امتد ليطاول الأسطول بأكمله بدرجات غير مسبوقة. فالتقديرات الأممية تشير إلى تدمير شبه كامل للقوارب الكبيرة المخصصة للشباك الدائرية، فيما فقدت قوارب الجر القدرة على الإبحار بعدما تحولت إلى هياكل متفحمة، ولم تسلم القوارب المتوسطة أو تلك المستخدمة في الصيد العميق، إذ أصابها دمار واسع جعل تشغيلها بالغ الصعوبة. 

إلى جانب هذا الدمار النوعي، وثّقت صور الأقمار الصناعية، اختفت جميع القوارب من الميناء بحلول 10 يناير 2024 بنسبة 100%، ما يعني أن قطاع غزة فقدَ عمليًا كامل قدرته التشغيلية على الإبحار.

تلخص قصة الصياد رشاد الهسي مشهد الانهيار كله. فقد امتلك مع إخوته أربعة قوارب، أحدها بقيمة 200 ألف دولار، لكنها جميعًا احترقت أو دُمرت، تاركة العائلة بلا أي وسيلة عمل. 

يشير الهسي إلى المكان الذي كانت ترسو فيه قواربهم ويقول إنهم لم يعودوا يملكون ما يمكن الاتكاء عليه: لا شبكة صالحة ولا محرك يمكن إصلاحه. 

اليوم، يتنقّل مع إخوته بين بقايا الخشب والحديد الملتوي بحثًا عن قطعة معدنية قد تسمح لهم بمجرد الإطلالة نحو البحر من جديد؛ بحرٍ صار أكثر شبهًا بذاكرة بعيدة منه بمصدر رزق يمكن الوصول إليه.

وتجاوز الدمار القوارب ليطال الأساس الذي يستند إليه القطاع البحري بأكمله. فغرف المعدات التي كانت تشكّل مخازن الصيادين ومراكز صيانة شباكهم ومحركاتهم، لم يبق منها سوى جدران متصدعة؛ إذ دُمّر 270 منها من أصل 300، ما يعني عمليًا فقدان البنية التي يقوم عليها العمل اليومي للصيادين. 

أما مصانع الثلج الثلاثة التي كانت تمد الموانئ بما تحتاجه لحفظ الأسماك، فقد توقفت بالكامل، لترتفع خسارة البحر إلى خسارة القدرة على حفظ ما يُصطاد منه أصلًا. 

وعلى امتداد الساحل، اختفت خمسة مراسٍ بحرية كانت تشكل نقاط ارتكاز أساسية للقوارب، فتحول الشاطئ إلى خطّ مكشوف بلا بنية حقيقية تنظم حركة الدخول والخروج.

وفي ميناء غزة، بدا المشهد أكثر قسوة؛ دمار شامل طال الأرصفة والسقائف والمخازن، وتضررت أنظمة الطاقة الشمسية ومصادر المياه التي كانت تغذي الميناء وتساعد في تشغيل مرافقه. ومع تراجع إدخال المعدات البحرية إلى 5% فقط مما كان قبل الحرب، أصبح إصلاح أي أداة شبه مستحيل، إذ لا تتوفر قطع الغيار ولا المواد الأساسية لإعادة تشغيل ما تعطّل.

وتظهر تقديرات ميدانية لـ "آخر قصة" أنّ ما يقارب 95% من ممتلكات الصيادين ومرافق التخزين والتجهيز أصابها الضرر المباشر، ما دفع كثيرًا من العائلات إلى فقدان مصادر دخل كانت قائمة على أعمال صغيرة مرتبطة بالبحر، مثل "مطبخ زوجات الصيادين"، الذي كان يوفر موردًا إضافيًا لعشرات الأسر. هكذا لم يطال الدمار الشاطئ وحده، بل ضرب المنظومة التي تسند قطاع الصيد، فزاد هشاشته وقيّد قدرة العاملين فيه على الاستمرار.

على الجانب الرسمي، تُقِرّ وزارة الزراعة في غزة بحجم الانهيار ذاته الذي يعيشه الصيادون. ففي تصريح صحافي نُشر في 11 كانون الأول/ديسمبر 2024، تشير الوزارة إلى أن جيش الاحتلال قتل منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 مئتي صياد، وأن الحرب تسببت في فقدان ما يقارب 4600 طن من الإنتاج السمكي بقيمة تتجاوز 20 مليون دولار، بينما أصبح ما يقارب 5000 صياد بلا عمل فعليًا. 

كما صرّح الناطق باسم الوزارة محمد أبو عودة بأن البنية التحتية لقطاع الصيد، من الميناء الرئيسي إلى المراسي وغرف الصيادين ومخازنهم الممتدة على طول الساحل، تعرّضت لتدمير واسع، وأن قوات الاحتلال لا تكتفي باستهداف القوارب والمعدات، بل تمنع أيضًا دخول الوقود وقطع الغيار، وتُبقي مساحة الصيد في نطاق يكاد يلامس المنع الكامل، ما يحوّل البحر إلى مجال مغلق أكثر منه مصدر رزق يمكن الوصول إليه.

هذا الانهيار لم يبق في حدود البنية التحتية، بل انعكس مباشرة على معيشة الصيادين. فمع استشهاد 230 صيادًا منذ بداية الحرب، وتحول المهنة إلى واحدة من أكثر المهن خطورة في غزة، ارتفعت البطالة في قطاع الصيد إلى 97%، فيما بات البحر ساحة مهدِّدة لا يمكن بلوغها إلا ضمن مدى رصاص يمتد إلى نحو 350 مترًا من الساحل. 

وفي الميدان، لم تعد قدرة الصيادين على الإنتاج تتجاوز 2% مما كانت عليه قبل الحرب، بينما انخفضت الكميات اليومية المتاحة إلى حدود 300 كيلوغرام فقط؛ رقم لا يوازي حاجة قطاع يعيش فيه أكثر من 1.8 مليون شخص تحت تصنيف "الجوع الكارثي". ولم يعد غياب السمك من الأسواق تفصيلًا عابرًا، فقد قفزت أسعاره بنحو 1400% ليصبح واحدًا من أغلى السلع الغذائية في غزة.

ويرى المختص الاقتصادي أحمد أبو قمر أن استعادة قطاع الصيد لا يمكن أن تتم دون خطة رسمية واضحة وحصر شامل للخسائر، إضافة إلى شفافية أممية حول الدعم وقوائم المستفيدين وضمان وصول آمن إلى البحر، وهو شرط لا يمكن تجاوزه. 

ويوضح أنّ المشكلة الحالية تتجاوز إصلاح القوارب أو إعادة تشغيل الميناء، وتمتد إلى إعادة بناء "سلسلة حياة كاملة" تبدأ من القدرة على الإبحار وتمر بتوفر الوقود والمعدات وإصلاح المصانع وغرف التخزين وتنتهي بعودة الأسماك إلى الأسواق. 

ويؤكد أبو قمر أن غياب بيانات دقيقة حول الدعم وعدم وضوح آليات التوزيع يجعل الصيادين "آخر من يعرف وأول من يتضرر".

ويحذر من أن استمرار الوضع سيحوّل قطاع الصيد من رافعة اقتصادية إلى عبء إنساني إضافي ما لم تُعالج جذور الأزمة: فتح البحر بأمان، إعادة بناء البنية التحتية، وتوفير إطار واضح لإدارة الدعم. فبدون ذلك ستظلّ غزة أمام قطاع مستنزف لا يملك القدرة على النهوض، حتى مع توفر النوايا والموارد.

في غزة، ليس البحر مجرد مصدر رزق بل ذاكرة جمعية ومهنة متوارثة ونافذة ضيقة على العالم الخارجي. واليوم، ومع استمرار القيود البحرية وغياب رؤية لإعادة تأهيل القطاع، يخشى الصيادون أن تتحول المهنة التي ورثوها جيلًا بعد جيل إلى فصل مطويّ من تاريخ عائلاتهم، بدلًا من أن تبقى جزءًا حيًا من حاضر غزة ومستقبلها.