خلال عامين من النزاع، أصبح الهواء في قطاع غزة إحدى أكثر ساحات الحرب خفاءً واتساعًا؛ فضاءً تتكدّس فيه الغازات السامّة وجزيئات الغبار المعدني والمواد الكيميائية المنبعثة من آلاف الانفجارات. وتحت سماء مثقوبة بالقصف، يعيش أكثر من مليوني إنسان داخل غلافٍ ملوّث يتسلل إلى الرئتين والدم والتربة والخزان الجوفي.
ورغم ذلك، يواصل السكان حياتهم بين الأنقاض، مُجبرين على التكيّف مع هواء محمّل بآثار صراع طويل. لكن هل يمتلك الغزيون القدرة على التعايش مع هذه الانبعاثات؟ وما الذي تعنيه لصحتهم المباشرة ولبيئتهم، هذه المواد التي لا يُعرَف بعضها حتى الآن؟
ولا تقتصر أزمة الهواء على الانزعاج اليومي؛ فـالحقائق العلمية تُشير إلى أن غزة تعيش إحدى أشد أزماتها البيئية منذ عقود. فالحرب، بما خلّفته من ركام ومواد كيميائية وغازات ناجمة عن المتفجرات والفسفور، خلقت مستويات تلوث غير مسبوقة على رقعة باتت أصغر من نصف مساحتها الأصلية.
ذات صباحٍ مثقل بذرات الغبار وروائح الحرب في أبريل الماضي، كان الهواء أثقل من أن يُستنشَق؛ طبقة كثيفة من الروائح المجهولة تنخفض فوق المدينة كسحابة خانقة. وفي أحد ممرّات مستشفى كمال عدوان المزدحمة شمال قطاع غزة، توقّف الحكيم عصام خضر فجأة، واضعًا يده على صدره كمن يحاول تثبيت أنفاسه في مكانها.
ما إن تسلّلت إلى رئتيه رائحة غاز غامضة أُطلقت في الأجواء، حتى انكمش جسده وتعرّض لنوبة اختناق حادّة ناجمة عن استنشاق المادة. اندفعت الكحّة من عمقه بعنف، ورافقها غبار أسود لزج التصق بحلقه، فيما اشتعلت عيناه احمرارًا وسالت دموعه من شدّة الحرقة، وهي أعراض تشير إلى تعرّض حادّ لمادة مهيّجة أو سامة، وليس مجرد نوبة عابرة.
يقول الرجل: "إنه شعور بالغ السوء أن تختنق في اللحظة التي يفترض أن تكون فيها على رأس عملك، فتضطر إلى تجاهل الألم والمضيّ قدمًا. هذا الأمر تكرر معي مرات عدة، وتكراره، بطبيعة الحال، يُضعف المناعة".
ولم يكن خضر استثناءً؛ فآلاف السكان اختبروا روائح غامضة ودخانًا كثيفًا جراء الغارات منذ أكتوبر 2023. ومع تراكم هذه الانبعاثات، لم يعد الأثر يقتصر على السعال أو التهيّج، بل ظهر في حالات أكثر خطورة، خاصة بين الفئات الهشّة.
وتطال الأضرار الصحة الإنجابية أيضًا. فوفقًا لتقارير وزارة الصحة الفلسطينية، ارتفعت معدلات الإجهاض من 15 إلى 25%، فيما ارتفعت تشوهات الأجنة من 5 إلى 15% خلال عامين من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
داليا محمد كانت إحدى الأمهات اللواتي فقدن حملهن. تقول وهي تحمل بين يديها حذاءً صغيرًا كانت اختارته لطفلها الأول: "في الشهر السادس من الحمل، أخبرني الطبيب أن الجنين غير مكتمل وأنّ لديه تشوّهات واضحة، وقال إن السبب يعود غالبًا لتعرّضي للغازات والإشعاعات السامة خلال الحرب."
أما رفيف عزيز، المصابة بالربو، فعاشت حربًا مضاعفة. كانت تستنشق الغبار الغريب الناتج عن القصف بشكلٍ شبه دائم؛ ما أضعف مناعتها ودفعها إلى دائرة انتكاسات لا تنتهي.
تقول بصوتٍ متعب: "منذ عامين وحالتي تتدهور باستمرار. أتحسّن أيامًا قليلة ثم يكفي أن أستنشق رائحة غريبة لأعود إلى نقطة الصفر. صرتُ مقتنعة أنني سأُصاب بتليّف الرئة أو بسرطانها في أي لحظة؛ فالأمر لم يعد احتمالًا بعيدًا، بل مسألة وقت فقط."
كما تعاني من نوبات الاختناق الليلية باتت جزءًا ثابتًا من يومها؛ تستيقظ فجأة وهي تكافح لالتقاط أنفاسها، في وقتٍ يطاردها فيه الهواء الملوّث أينما ذهبت. وتضيف عزيز أنّ وجود مصنعَي السولار قرب منزلها يزيد حالتها تدهورًا، إذ تختلط روائح الانبعاثات اليومية بالغبار المتصاعد من القصف، لتصنع مزيجًا خانقًا يثقل صدرها مع كل محاولة للتنفس.
استشاري الباطنة والصدرية بغزة أحمد الربيعي، يؤكد تسجيل ارتفاع "غير مسبوق" في حالات الالتهابات الرئوية الحادّة، خصوصًا بين مرضى الربو، إلى جانب تزايد ملحوظ في حالات سرطان الرئة.
ويُرجِع الربيعي ذلك إلى التعرُّض المستمر لجسيمات ناتجة عن ثاني أكسيد الكربون، ومركّبات الكبريت، والفسفور الأبيض، وبقايا الأسمنت المتطاير في الهواء. مشيرًا إلى أنّ الغبار المتصاعد من الركام يحمل جسيمات دقيقة مثلPM10 تتوغّل عميقًا في الرئتين، مُسبٍبة تلف الخلايا والتهابات مزمنة، مع تأثيرات محتملة على الدم والقلب.
لكن التأثير الصحي لا ينفصل عن الأثر البيئي. فبحسب فريق بحث دولي، تُسهم الحروب في تفاقم أزمة المناخ عبر انبعاثات كثيفة للغازات الدفيئة. وتشير التقديرات إلى أن كمية المتفجرات التي أُسقطت على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023 تجاوزت 200 ألف طن، بينما تولّد عمليات التدمير والركام وإعادة الإعمار نحو 31 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون وهو رقم يفوق انبعاثات 135 دولة.
وتحذّر الجهة البحثية من أن مرحلة إعادة الإعمار ستكون الأكثر تكلفة مناخيًا، إذ تُعدّ عمليات رفع الركام والبناء من أكبر مصادر الانبعاثات، ما يضاعف الأثر البيئي للحرب على المدى الطويل.
المختص البيئي نزار الوحيدي يصف ما يحدث بأنه "كارثة مناخية". فالقصف وأنواع الأسلحة المستخدمة في قطاع غزة، بما فيها القنابل الحرارية والفراغية والفسفور الأبيض، خلّفت مزيجًا من الملوّثات التي تؤثر في المناخ والصحة معًا.
وتسببت في نشر كميات هائلة من الغبار الدقيق المحمول بمواد سامة ومشعّة يتساقط على البيوت والمزارع، ويتسرب تدريجيًا إلى التربة والمياه الجوفية، وتغطي البيوت والخيام بطبقة من الغبار الأسود، ما يضع الغزيين أمام بيئة منهكة لا تقل خطورة عن القصف نفسه، إذ تُهدد جودة الهواء والماء والغذاء لسنوات طويلة.
في غزة، لم تعد الحرب حدثًا ينتهي بانتهاء القصف؛ بل امتدت إلى الهواء والتربة والماء، وعلقت في تفاصيل الحياة اليومية. ومع كل نفس يستنشقه السكان، يظل السؤال معلّقًا: هل سيتعافى الهواء؟ وهل يمكن إصلاح ما أفسدته الحرب؟ وهل يستطيع أكثر من مليوني إنسان العيش في بيئة لم تعد قادرة على حماية أبسط ما يحتاجونه… الهواء؟



التعليقات