هل تصلح أيدي الشباب ما دمرته الحرب؟

حنعمرها من تاني

هل تصلح أيدي الشباب ما دمرته الحرب؟

على امتداد شوارع لم يبقَ فيها أثرٌ لمعالمها الأصلية بعد حربٍ امتدت لعامين، تقف غزة اليوم أمام تحدٍّ عمراني واجتماعي شديد التعقيد: مدينة متضررة على نحوٍ غير مسبوق، وأحياء شبه ممحوة، وسكان يعيشون في انتظار طويل لمرحلة إعادة الإعمار.

فالأرصفة التي شهدت يومًا حركة الناس صارت مكدّسة بالركام، والطرق التي ربطت بين الأحياء تحوّلت إلى ممرّات وعرة تتخللها الحفر والانهيارات. تبدو المدينة، في كثير من اللحظات، كخارطة بلا تفاصيل؛ أسماء شوارع لا تشير إلى شيء قائم، وسكان يمشون بين الحطام بخطوات متردّدة، يبحثون عن طريق أو معلم لم يبقَ منه أثر، تحت شعور ثقيل بأن الزمن ما يزال عالقًا عند لحظة الانهيار.

وفي ظلّ هذا الفراغ الذي تركته الحرب - فراغ عمراني، ونفسي، وإداري على حدٍّ سواء -، تبرز مبادرة "حنعمرها تاني" بوصفها جهدًا شعبيًا يقوده الشباب لإعادة فتح الشوارع، تنظيف المناطق المدمَّرة، وتجهيز أرضية ميدانية تساعد لاحقًا في التخطيط الهندسي الرسمي، وتُعيد إلى السكان، ولو تدريجيًا، إمكانية العبور والعودة إلى ما تبقّى من حياتهم اليومية.

في حيّ الرمال، تتقدّم هبة التري (35 عامًا)، مهندسة مدنية، وأحد المتطوعين في الحملة، بخطوات ثابتة نحو أطلال مبنى سُوِّي بالأرض. تقف أمامه وتقول: "لم يعد بإمكاننا انتظار العالم ليعيد إعمار مدينتنا. نحن، بوصفنا مهندسين وشبابًا، يجب أن نكون جزءًا من التخطيط والتنفيذ، لا مجرد مراقبين."

تعمل المهندسة التري ضمن الفريق الشبابي المتخصص في إجراء مسوحات أولية للأحياء، تصنيف الأضرار، وجمع بيانات تساعد لاحقًا في إعادة الإعمار. بالنسبة لها، الإعمار ليس بناءً ماديًا فقط، "بل إعادة شعور الناس بالأمان".

على بُعد خطوات، يرفع حسام الكفارنة (30 عامًا) الركام بيديه. يقول: "غزة ليست مجرد مدينة؛ إنها أهلنا وذكرياتنا. وإن لم نعمل نحن اليوم، فمَن الذي سيُعيد الأحياء إلى الحياة؟"

يرى الكفارنة أن ما يقومون به لا يقتصر على تنظيف الشوارع وإزالة الركام، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة تعريف شعور الشباب بمسؤوليتهم تجاه مدينتهم؛ أي أن المشاركة في الإعمار تعني، بالنسبة له، تولّي دور حقيقي في الحفاظ على المكان، وترميم الحياة فيه، بدل الاكتفاء بدور المتفرّج على الخراب.

ويضيف: "حين رأيت الناس يسيرون في الطريق الذي نظّفناه، شعرتُ بأنّ للتعب معنى. كان المشهد أشبه باستعادة نبضٍ صغير للمدينة؛ لحظة تُذكّرنا بأنّ جهدًا بسيطًا يمكن أن يفتح ممرًا للحياة، وأنّ ما نقوم به، بل خطوة تعيد للناس القدرة على الحركة والعودة إلى تفاصيل يومهم."

أما نجلاء الغلاييني (45 عامًا)، التي شاركت في غرس أشجار زيتون في موقع منزل مدمّر، فتقول: "الإعمار لا يعني بناء بيوت جديدة فقط. نحن بحاجة إلى خدمات ومساحات آمنة. المدينة يجب أن تتعافى بأيدي سكانها."

وتقول آسيا صبري (25 عامًا)، وهي تشرف على مجموعة من المتطوعين: "الإعمار ليس رفع أنقاض فقط، بل تنظيم للعمل، والتواصل مع الأهالي، واستعادة الثقة. كل خطوة ننجزها تُقرب غزة من الحياة الطبيعية."

ولا يُخفي المتطوعون حجم التحدّيات التي يواجهونها يوميًا؛ من نقص المعدات الأساسية، وصعوبة الوصول إلى بعض المناطق شديدة الضرر، إلى الضغط النفسي الذي يرافق العمل وسط مشاهد الخراب. 

ومع ذلك، يتعامل القائمون على الحملة مع هذه العقبات بوصفها جزءًا من مسار طويل لبناء خبرة ميدانية يمكن الاستفادة منها لاحقًا في مشاريع الإعمار الرسمية. فبالنسبة لهم، ما يجري ليس جهدًا عابرًا، بل خطوة أولى نحو ترسيخ ثقافة جديدة في التعامل مع المدينة وإعادة بنائها من الداخل.

تكشف الأرقام الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني وتقارير الأمم المتحدة صورة دقيقة لواقع غزة بعد عامين من الحرب. فقد ارتفعت نسبة البطالة العامة إلى نحو 80%، وهي الأعلى في تاريخ القطاع، بينما تتراوح البطالة بين فئة الشباب (18–35 عامًا) بين 70-77% وفق تقديرات PCBS ومنظمة العمل الدولية، ما يعكس ضيق الفرص في ظل انهيار الاقتصاد المحلي وتوقف معظم القطاعات الإنتاجية.

وعلى المستوى العمراني، تشير بيانات الإحصاء الرسمي (مايو 2025) إلى تضرّر ما يقارب 190,115 مبنى بين دمار كلي وجزئي، منها قرابة 102 ألف مبنى مدمّر كليًا، وهو حجم أضرار غير مسبوق في تاريخ القطاع.

وقد ترك هذا الانهيار العمراني أجزاء واسعة من المدينة بلا بنية سكنية أو خدمات أساسية، خاصة في غزة المدينة والشجاعية والرمال وجباليا وبيت لاهيا، إضافة إلى مناطق كبيرة من خان يونس التي تصنَّف اليوم ضمن الأكثر تضررًا.

ورغم هذه الصورة القاتمة، تُظهر التقارير المحلية نشاطًا متزايدًا للمبادرات المجتمعية؛ إذ تعمل أكثر من 15 مبادرة شبابية على رفع الأنقاض وتنظيم العمل الميداني داخل الأحياء المتضررة، مستندة إلى شبكة تضم ما بين 5000 – 7000 متطوع ومتطوعة موزّعين على فرق مختلفة.

لا تُشكّل هذه الجهود بديلاً عن العمل المؤسسي، لكنها، في غياب بنية رسمية قادرة على تغطية مناطق الضرر كافة، أصبحت عنصرًا محوريًا في مرحلة التعافي المبكر وفي إعادة المدينة إلى مستوى يمكن التعامل معه هندسيًا وإنسانيًا.

يقول نهاد المغني، عميد كلية الهندسة التطبيقية والتخطيط العمراني في جامعة فلسطين، إن مشاركة الشباب ليست خيارًا ثانويًا، بل عنصرًا أساسيًا في إعادة البناء: "يمتلك الشباب قدرات إنتاجية عالية، ومهارات رقمية وهندسية تسرّع الإنجاز. معرفتهم بأحيائهم وباحتياجاتها يجعلهم قادرين على تقديم حلول واقعية، خاصة في المراحل الأولى من التعافي."

يتابع: "إشراك الشباب يحدّ من موجة الهجرة، ويمنحهم دورًا مهنيًا واجتماعيًا في مستقبل المدينة."  ويشير إلى أن وجودهم في مواقع العمل يعزز إحساسهم بالجدوى والانتماء، ويمكّنهم من رؤية أنفسهم جزءًا من عملية إعادة البناء لا مجرد متفرجين على ما يحدث.

تؤكد تجربة "حنعمرها تاني" أن الإعمار يبدأ قبل وصول الجرافات وقبل الموازنات الدولية. يبدأ حين يقرر السكان الوقوف فوق الركام، لا بجانبه. 

وسط الأنقاض، تستعيد غزة نبضها بإيقاع شبابها. فهؤلاء المتطوعون لا يشيدون بيوتًا، بل يفتحون الطرق وينظّفون الممرّات ويعيدون للناس القدرة على الحركة، بما يكفي لإحياء شعورٍ بأن الحياة ما تزال ممكنة بعد الخراب الطويل. وغزة – كما يردد المتطوعون – لن تنتظر أحدًا. إنها تُستعاد من جديد، خطوةً بعد أخرى، ويدًا فوق يد.