على امتداد شارع الرشيد الساحلي غرب قطاع غزة، في المنطقة المحاذية لمحور نتساريم، يتصاعد دخان أسود كثيف من المقاطع المتضررة على جانب الطريق. هناك، حيث يمتزج الهواء برائحة البلاستيك المحترق، تواصل مشاغل مؤقتة وبدائية تدوير النفايات البلاستيكية لإنتاج ما يُعرف بـ "السولار الصناعي"؛ الوقود البديل الذي ظهر بعد اندلاع الحرب الإسرائيلية في أكتوبر 2023، إثر انقطاع الوقود الرسمي وغياب أي مصادر طاقة مستقرة.
وأصبح الطريق الساحلي، الذي يشكّل اليوم الممر الرئيسي لانتقال السكان بين شمال القطاع وجنوبه، مسارًا يعبره آلاف يوميًا، ما يجعل المارة والسائقين أكثر عرضة للهواء الملوّث. وقد اشتكى كثيرون من تهيّج في العينين وضيق في التنفس، خاصة بين الأطفال وكبار السن، مع الرياح التي تدفع الأبخرة نحو الأحياء الساحلية ومخيمات النزوح المتاخمة للطريق.
ورغم أنّ اختيار الساحل هدف إلى إبعاد الانبعاثات عن المناطق المزدحمة، فإن الموقع نفسه من أكثر الممرات الحيوية في غزة، ومع انفتاحه على البحر تنتشر الملوّثات على مسافات واسعة، لتُظهر آثارها أكثر مما توقعه القائمون على هذا النوع من التصنيع.
وبالرغم من دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ في أكتوبر الماضي، تواصل هذه الورش نشاطها؛ إذ تحوّل ما بدأ كحلّ اضطراري إلى مصدر يومي للوقود بفعل أزمة الكهرباء وندرة السولار الرسمي. ومع القيود على حركة الشاحنات وارتفاع أسعار الوقود المستورد، أصبح السولار البديل خيارًا يلجأ إليه السائقون وأصحاب المولدات، ما رسّخ وجود هذه المشاغل في المناطق التي يصعب على الجهات المختصة مراقبتها أو إيقافها.
في تلك البقعة المثقلة بالدخان، يقف ساري عليوة بين أكوام البلاستيك المحترق وأنابيب بدائية تتساقط منها قطرات سوداء سامّة. يقول وهو يمسح جبينه: "خلال الحرب عملنا اضطرارًا لأنّ الناس كانت تحتاج إلى السولار، وها هو وقف إطلاق النار قد دخل حيّز التنفيذ، ولم يتغيّر شيء، فالحاجة إليه ما تزال قائمة والطلب يزداد يومًا بعد يوم."
ويشير إلى مرجل حديدي كبير يشتعل اللهب أسفله موضحًا: "نحن نعلم أن هذا العمل خطِر، رائحة البلاستيك خانقة، والدخان يخنق الصدر، لكن لا بديل ولا حلول من الجهات الحكومية. والناس التي تعود لشرائه تعرف تمامًا أنّ هذا السولار غير آمن ولا مضمون."
وبصفته المشرف على هذا العمل، لا يخفي عليوة تضرّره الشخصي، إذ يقرّ بالمشكلات الصحيّة الناجمة عنه، يتابع: "لديّ أطفال في المنزل أصيبوا بالحساسية، لكن إن أغلقتُ المشغل، فأين أذهب أنا والعمّال؟ لا عمل متاحًا ولا أي شكل من المساعدات."
يقف إلى جواره، بصعوبة واضحة، مسعود أبو حشيش (35 عامًا)، الذي لم يعد قادرًا على الوقوف طويلًا بعد إصابته بذَبحة صدرية حادّة قبل أسابيع نتيجة العمل في تدوير البلاستيك.
يقول وهو يمسح العرق المختلط بغبار أسود: "الدخان يدخل إلى صدري؛ لكن ماذا أفعل؟ لا يوجد عمل آخر، والظروف الحالية دفعت كلَّ شخص إلى السعي وراء أي فرصة للرزق". ورغم أنّ الأطباء طلبوا منه التوقف عن هذا العمل فورًا، فإنه يؤكد أنه لا يملك خيارًا آخر، وأن تركه يعني فقدان مصدر دخله الوحيد.
في المشغل نفسه، يشاركه المعاناة المهندس أحمد غزال، الذي فقد وظيفته قبل النزاع، ليجد نفسه مضطرًا إلى العمل وسط دخان البلاستيك بحثًا عن مصدر دخل. يقول: "لم أتخيّل يومًا أن أعمل في مكان كهذا، حاولتُ البحث عن وظيفة في مجالي، فلم أجد. أعاني يوميًا من مشاكل في التنفس وسعال لا يتوقف، لكنني مُجبَر على الاستمرار."
ولا تقتصر هذه المشاغل على الشريط الساحلي وحده؛ إذ رُصد وجود مشغل آخر على طريق صلاح الدين، في المقطع الواصل بين مخيم النصيرات ومدينة دير البلح باتجاه الجنوب، وهو ما يؤشر إلى توسّع هذه الأنشطة في أكثر من محور حيوي داخل القطاع. ويُعدّ هذا الطريق شريانًا رئيسيًا للتنقل بين وسط القطاع وجنوبه، ما يجعل تأثير الانبعاثات ممتدًا إلى مسارات أخرى غير ساحل غزة.
وبحسب تقرير الصادر عن مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان في أغسطس/آب 2025، معنون بـ "بين الضرورة والخطر: أفران السولار الصناعي في قطاع غزة تهدد أرواح السكان"، يوجد في قطاع غزة نحو 97 ورشة/فرن لصناعة بديل السولار موزَّعة على مختلف المحافظات، ويُقدَّر عدد العاملين والمشرفين فيها بنحو 767 شخصًا.
وتشير بيانات التقرير إلى أن غالبية هؤلاء العمال تربطهم قرابة واحدة أو ينتمون إلى العائلة نفسها، ما يعني أن الخطر الصحي لا يقتصر على العاملين داخل المشاغل فحسب، بل يمتدّ إلى أسرٍ كاملة تعيش في البيئة نفسها وتتعرض للملوّثات ذاتها
طبيًّا، يُحذر استشاري الباطنة والصدرية، الطبيب أحمد الربيعي، من أنّ مشاغل السولار الصناعي تُطلق "مزيجًا خطيرًا من المواد السامة التي يسبب استنشاقها فورًا ضيقًا حادًا في التنفس وتهيّجًا شديدًا في الشعب الهوائية". ويوضح أنّ هذه الغازات تشمل مركّبات ناتجة عن حرق البلاستيك، وهي مواد معروفة بتأثيرها المباشر على الجهاز التنفسي.
ويشير إلى أنّ العيادات شهدت في الأشهر الأخيرة ارتفاعًا ملحوظًا في حالات التحسس الصدري والربو والالتهابات الحادة، لاسيما بين الأشخاص الذين يمرون يوميًا بالقرب من هذه النقاط أو يقطنون في المناطق المحاذية لها. ويرى أن التعرض طويل الأمد لهذه الأبخرة قد يؤدي إلى تلف مزمن في أنسجة الرئتين وزيادة احتمالية الإصابة بأمراضٍ سرطانية.
ويُشدِّد الربيعي على ضرورة إجراء فحوصات طبيّة عاجلة للعاملين في هذه المواقع، مؤكّدًا أنّ كثيرًا منهم يُظهرون أعراضًا واضحة تستدعي تدخلًا مبكرًا قبل تفاقم حالتهم الصحية.
وتتضاعف هذه المخاطر في مواقع قريبة من طرق حيوية، ما يعرض المارة لنفس مستوى التلوث تقريبًا الذي يتعرض له العمال.
ورغم أنّ الأذى المباشر يظهر بوضوح على العاملين في هذه النقاط، يؤكد الخبير البيئي نزار الوحيدي أن الخطر الحقيقي يمتد إلى البيئة المحيطة والسكان جميعًا. ويوضح أن تقطير البلاستيك وُلد كحلّ اضطراري في ظل نقص الوقود، لكنه تحوّل إلى مصدر تلوّث واسع خلّف سحبًا كثيفة من الدخان والرماد أثّرت على التربة وجودة المياه والجهاز التنفسي لدى السكان، مشيرًا إلى أن هذه الآثار تظل قائمة حتى بعد توقف الحرق.
ويرى الوحيدي أنّ معالجة الخلل تتطلب مقاربة متعددة المسارات، تبدأ بتقليل الاعتماد على الوقود المستخرج بطرق بدائية وتوفير بدائل أكثر أمانًا، إلى جانب إدخال وحدات تقطير حديثة مزوّدة بأنظمة فلترة ومعايير سلامة، ووضعها في مناطق بعيدة عن التجمعات السكنية والحركة المرورية بعد إجراء تقييم بيئي شامل.
ويؤكد أن الرقابة الحكومية يمكن أن تشكّل جزءًا من الحل، ليس عبر الإغلاق الشامل الذي قد يفاقم أزمة الوقود، بل من خلال تنظيم هذه المشاغل وتحديد شروط عملها، ومنع تشغيل الأكثر خطورة منها، وإلزام العاملين بإجراءات سلامة أساسية لتقليل الانبعاثات. ويضيف أن نقل هذه الأنشطة إلى مناطق مفتوحة وخالية نسبيًا من السكان قد يخفف جزءًا من الضرر إلى حين تمكين دخول السولار الرسمي بكميات كافية.
ويشدد الوحيدي على أنّ أي حلّ جذري سيظلّ مرهونًا برفع القيود المفروضة على دخول الوقود والمعدات، إذ إن استمرار الأزمة الحالية يفتح الباب أمام توسع هذه الممارسات الخطرة دون رقابة فعّالة.
مدير وحدة حماية البيئة في سلطة المياه، محمد مصلح، يُقرّ بأن قدرة الجهات الرسمية على التعامل مع هذا النوع من التصنيع ما تزال محدودة. ويوضح أن غياب السولار الرسمي تقريبًا، وتزايد الحركة التجارية والمركبات بعد وقف إطلاق النار، جعلا المشهد أكثر تعقيدًا في ظلّ اعتماد شرائح واسعة من السكان على هذا الوقود البديل.
ويضيف أنّ الأجهزة الحكومية "غير قادرة على ضبط الوضع بصورة كاملة، بسبب الظروف الأمنية الصعبة وتدمير جزء كبير من الموارد واللوجستيات الخاصة بالرقابة، فضلًا عن غياب وسائل النقل والتنفيذ".
كما يؤكد أنّ سلطة المياه وجودة البيئة والبلديات تملك من حيث المبدأ صلاحية إغلاق هذه النقاط، لكن "الوضع العام لا يسمح بفرض رقابة فعّالة، ولم تُتَّخذ إجراءات محاسبة أو إغلاق حتى الآن".
غير أنّ هذه التحديات لا تُلغي الحاجة إلى خطط طارئة تحدّ من انتشار هذه المشاغل أو تحوّلها إلى مناطق أقلّ خطورة.
وبينما تواصل الورش عملها بدافع الضرورة، وتتفاقم المخاطر الصحية والبيئية، يطرح المختصون سؤالًا ملحًا: إلى أي مدى يمكن لغزة أن تتحمل استمرار هذا الوقود البديل الذي انتقل من حلّ مؤقت إلى خطر دائم؟ وكيف يمكن للعمّال وللسكان الاستمرار في دفع ثمن غياب الرقابة والبدائل الآمنة في آن واحد؟



التعليقات